في فلسفة الحكم

  • 9/30/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

د. عمر عبدالعزيزأن تحكم يعني أن تسوس الناس، وهذا يقتضي التعامل الذكي مع منظومة المصالح المتعارضة حد التناقض، والتي تفرز بدورها قيماً ثقافية وطرائق سلوكية متباينة، والأصل في السياسة الحكيمة أن تتحول هذه التناقضات الطبقية والتباينات في الرؤى إلى سبب للنمو والازدهار، بدلاً من التنافي والتقاتل. والوسيلة الكفيلة بالوصول إلى تحويل ما هو سيء إلى حسن هو اعتماد وشرعنة التعددية بدلاً من منعها، والدرب السالك لمفهوم التعددية يبدأ بالاقتصاد والإدارة، فالاقتصاد متعدد المصادر يوازي النظام الاتحادي الذي يعتبر المساهمة المحلية قيمة عليا في صنع الاقتصاد الكلي للدولة. والشاهد الوحيد على ذلك في المستوى العربي العام هو نظام الإدارة والتيسير في الدولة الاتحادية العربية الوحيدة، وهي دولة الإمارات العربية المتحدة، التي انتهجت درب التعددية التطبيقية والمفاهيمية من خلال نموذجها الماثل، وكانت بذلك وما زالت مفارقة للسائد العام في النظام العربي، وكانت النجاحات الاقتصادية المتواصلة شاهداً على معنى التعددية انطلاقاً من الوجود الاجتماعي للبشر، وكيف أن هذه المقدمة تمثل الأداة الجوهرية في نماء الوعي الاجتماعي، وصولاً إلى تعميم التميمة الوازنة لمعنى التنوع في الواحدية، بالمعنى الواسع للكلمة. هذا الخيار يعني في نهاية المطاف الابتعاد عن التمترس عند تخوم القناعات الفئوية والمصالح الضيقة، وفي هذه الحالة يكون القانون الوضعي هو القاسم المشترك الأعلى بين الناس.. بل هو العقد الاجتماعي الذي يستقي مفرداته من كامل القيم المادية والروحية ذات الصلة بالأديان والأعراف والاجتهاد.توقف الفلاسفة أمام هذه المواضيع، وذلك استطراداً على تأملاتهم الفكرية المجردة، وحيرتهم الوجودية المتصلة بسؤال الكليات (بضم الكاف وتشديد اللام) والجواهر أيضاً، وباشروا منذ أمد بعيد وضع التصورات والنماذج الافتراضية لمفهوم الحكم، وكان الفيلسوف اليوناني أفلاطون سبّاقاً في استنتاجاته المستقاة من حكمة سقراط الحكيم، الرائية إلى جوهرية تطور الظواهر على قاعدة انبثاق القديم من أحشاء الجديد، واعتبار أن المتغير في الظواهر يتوازى مع المشهود الثابت شكلاً والمتحرك جوهراً، فأنت أيها الرائي (لن تعبر النهر مرتين)، لأن مياه النهر تنساب دون توقف، وتبعاً لذلك تتغير دون توقف، وإلى ذلك تأسى أفلاطون بنظرات السفسطائيين القائلين بوجوب جواب ناجز على كل سؤال من أسئلة الوجود المرئي والغيبي، بدليل أن جمهوريته الافتراضية كنظام حكم وتسيير كانت جمهورية طبقية مراتبية، تعتمد مراتب معرفية وممارسية سابقة على الفعل الحياتي اليومي المتغير.. أي أنها افترضت أن السياسة الحكيمة نابعة من وجود مراتبية صارمة تبدأ بالمستشارين العقلاء، والحكام الذين يستقون التوصيات من نخبة المستشارين، والمؤسسة العسكرية الحارسة للنظام، وأخيراً الجماهير العاملة على الأرض من حرفيين ومزارعين وغيرهم. تنامت مثل هذه النظرات وتواصلت في نمائها الاجتهادي حتى جاء المفكر جان جاك روسو، ليقدم نظرية العقد الاجتماعي بين المتشاركين في صناعة الدولة، ودونما تصادم مع الميتافيزيقا الدينية، وبهذا مهد روسو لظهور دولة المواطنة والفصل الإجرائي بين التشريع والقوة الضامنة للدولة، والحكام القائمين على رعاية مصالح الشعب، وأفراد المجتمع الشركاء في بناء الكيان المؤسسي والإنتاجي والخدماتي للدولة.العالم العربي بحاجة ماسة إلى مراجعة متأنية لمفاهيم الحكم والإدارة، بحثاً عن تخطي العوائق، وانسجاماً مع ضرورات المستقبل، وتنمية لبيئة التفاعل الخلاق القادرة على تمثل واستيعاب كفاءات المواطنين واجتهاداتهم وقوة عملهم. فلسفة الحكم هي فن إدارة المجتمعات البشرية وفق قواعد راسخة بقدر مرونتها، وناعمة الأثر بقدر صرامة تطبيقها، وحاضرة في وجدانات الناس وقناعاتهم بقدر تأمين البيئة المثلى للإنتاج وإعادة الإنتاج مادياً وروحياً. ومن محاسن التاريخ أن تتوفر كثرة كاثرة من التجارب الإنسانية الناجحة التي تمثل محطات استلهام ونظر، ودونما تفريط في الخصوصية والمساهمة النوعية في صنع حاكمية إنسانية أكثر عدلاً ونماء.أزعم أن العرب قادرون على التحليق في تلك الآفاق الواسعة، شريطة الأخذ بأسبابها، والصبر على نتائجها، وحصد ثمارها الشاملة، وسيمثل اقتصاد المعرفة العصري الرافعة الكبرى نحو تلك المثابة التي نستحقها دون ريب. omaraziz105@gmail.com

مشاركة :