فلسفة هيغل في ثنائيات الحكم المتناقضة

  • 1/6/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

في عام 1995 وبينما كنت أتجول في سور الأزبكية بالقاهرة وهو مكان لبيع الكتب القديمة والنادرة وكان وقتها في مكان حديقة الأزهر الحالية قبل أن ينتقل إلى ميدان العتبة وبالصدفة رأيت كتابا أصفر يعلوه الغبار بعنوان دروس التاريخ. الكتاب من تأليف ويل وإيريل ديورانت مؤلفي كتاب قصة الحضارة وإيريل هذه هي زوجة ويل التي ساعدته في تأليف الكتاب وبعد شرائي للكتاب وتصفحه علمت أنه ملحق رئيسي لكتاب قصة الحضارة وملخص للعبر التي جاءت فيه لكن لأسباب مجهولة لم يكن الكتاب يطبع مع قصة الحضارة. يقول مؤلف الكتاب في بدايته بأن التاريخ نهر يجري ونحن ننظر إلى تدفقه لكننا لا نهتم بالزهور والأعشاب التي تنبت على جوانبه وهي ملخص العبر التي من الممكن أن نستلهمها من التاريخ وهي نتاجه كما أن تلك الزهور والأشجار هي نتاج ذلك النهر. يتحدث الكتاب عن أشياء كثيرة ومن أهمها أنظمة الحكم وأشكالها بسلبياتها وإيجابياتها اعتمادا على تجارب التاريخ فالأنظمة الملكية الوراثية وأشباهها تتطور فيها الفنون والجماليات والموسيقى وأشكال البناء والمتاحف ولذلك نجد أن كل التراث الروسي العظيم مثلا هو نتاج القياصرة ولم يزد عليه الحكم الشيوعي شيئا سوى أنه تربع على عرش تلك البنية القوية. تعقيبا على ذلك نجد أن كل الحضارة المصرية الحديثة وبنيتها التحتية من مبان وقصور ومتاحف ومدن فاخرة وجامعات وجسور وعلوم وفنون وموسيقى هي نتاج الملكية المصرية ولم يزد عليها عهد عبدالناصر وما بعده إلا نكالا وخسرانا أما حديثا فيوجد لدينا النموذج الإماراتي وما حققه من إنجازات كبيرة على جميع المستويات. الأنظمة الدينية القائمة على الحق المقدس كالإمبراطورية الرومانية المقدسة وعهد الكنيسة في أوروبا والخلافة الإسلامية أنظمة كانت ذات علو وسقوط ومع تطور البشرية وبروز النزعات الوطنية والقومية لم تعد تلك الأنظمة الدينية تتناسب مع العصر الحديث وأصبحت شيئا من الماضي السحيق. الأنظمة الإشتراكية أثبتت فشلها لأنها ضد الطبيعة ومما ينتهي الكتاب إليه من قناعات هي أن الأنظمة الديمقراطية الرأسمالية هي الأكثر نجاحا مقارنة بكل أنظمة الحكم رغم ما يشوبها من نواقص. مما لفتني في هذا الكتاب حديثه عن فلسفة هيغل السياسية والتي تتعلق بفكرة المتناقضات وهي الفكرة التي تقوم عليها مجمل فلسفة هيغل والتي اعتمدتها الأنظمة الديمقراطية كركيزة أساسية وتقوم هذه الفلسفة على مبدأ أن وجود فكرتين متناقضتين تماما سيؤدي بالضرورة إلى فكرة وسطية وإلى خلق التوازن بين الفكرتين فتنافس الإشتراكية والرأسمالية سيخلق أنظمة متوازنة وهذا ما حدى ببسمارك أبي النهضة الألمانية في نهاية القرن التاسع عشر إلى اختراع فكرة الضمان الإجتماعي للفقراء كحائط صد ضد الفكر الإشتراكي الثوري الذي بدأ بزوغه بقوة وقتها وبمعنى آخر فقد أخذ شيئا من الإشتراكية منعا لقيام ثورة إشتراكية.الضمان الإجتماعي ما زال قائما في ألمانيا وعموم أوروبا وهي خلاصة من الفكر الإشتراكي تشذب وتحد من توحش الرأسمالية وكذلك رأينا كيف أن الضغوط الغربية الرأسمالية حدت بالصين لاختراع نظام خليط بين الإشتراكية والرأسمالية منذ بداية التسعينات. الفلسفة الهيغلية أصبحت ركيزة أساسية في كل سياسات الغرب فيما بعد وتم استخدامها بشكل سلبي وإيجابي فلا شيء يخيف الغرب حسب تجارب القرن العشرين وما بعده مثل الأنظمة الشمولية ذات الفكر الواحد والنهج الواحد ولذلك تم إسقاط مئات الأنظة الشمولية في العالم مثل أنظمة أوروبا الشرقية وكذلك الإتحاد السوفيتي نفسه وإضعاف وزعزة أنظمة أمريكا اللاتينية وإسقاط نظام صدام والقذافي وعلي عبدالله صالح وما لم يتم إسقاطه من الأنظمة تم إختراع الفكرة المضادة لها. من الملاحظ أنه ضمن الأنظمة الساقطة أو شبه الساقطة كنظام الأسد أو حتى الناشئة تم خلق الفكرة النقيضة ففي سوريا تم خلق حكومة موازية من المعارضة وفي ليبيا لدينا النقيضان حكومة الوفاق وحكومة حفتر وفي اليمن لدينا حكومة الحوثي وحكومة عبد ربه وفي مصر هناك العسكر والإخوان وفي فسطين حماس وفتح وفي إقليم كردستان لدينا البرزانية والطلبانية وحتى لدى أكراد سوريا لدينا المجلس الوطني وحزب الإتحاد الديمقراطي. لم يشذ أحد عن هذه القاعدة والملاحظ دائما أن هناك ثنائية تتفق مع فلسفة هيغل ولم يتم اللجوء إلى وجود أكثر من فكرة وهذا يدل على أن كل شيء مخطط ومدروس. في حرب أكتوبر/تشرين الاول 1973 قطع العرب النفط عن الغرب وهذا سبب دمارا للإقتصاد العالمي وقتها فكان لا بد من وجود شوكة مناقضة في المنطقة فتم اختراع إيران الشيعية كفكرة مناقضة ومنافسة للدول السنية النفطية القوية وحققت إيران المراد وزعزعت العراق عبر حرب طويلة وبعد سقوط العراق تم التحكم في موارد الطاقة في المنطقة بما فيها إيران نفسها فوجود البعبعين سهل التحكم في كليهما ولم يعد أحد يستطيع التحكم في الطاقة أو قطعها عن دول العالم كما حدث في السبعينات. دول الغرب تستخدم تلك الفلسفة بإيجابياتها في بلدانها كما هو الحال في التنافس الديمقراطي بين الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي في أمريكا أما فيما يتعلق بما خلف البحار فيستخدمون الفكرة لخلق التوازن في أفضل الأحوال وتفتيت وإضعاف الدول والشعوب في أسوأ الأحوال ولو كانت هذه الدول ذات وعي ولم تنجر لتناقضاتها وأمراضها التاريخية وصراعاتها الايديولوجية والدينية والمذهبية والعرقية والعنصرية لما تم استغلال تناقضاتها ولأصبحت أيقونة في ميزان الأمم والحضارات. في دراسة حول سلوك المستهلك تم وضع منتجات متنوعة في مكان ووضع منتجين متنافسين فقط في مكان آخر ولوحظ أن الإختيار يكون أسهل للمشتري عند وجود منتجين فقط فالدماغ يتوه عند وجود خيارات كثيرة. طبعا هذا يتعلق بالعقل الشعبوي وهم الغالبية في المجتمع أما النخبة من الحكماء فدماغهم قادرة على التعامل مع أشد المتناقضات وعليه فوجود فكرتين متناقضتين سياسيا في واقعنا ربما يساعدنا على تنظيم حياتنا بشكل أفضل بمعنى أننا نستطيع الإستفادة من ذلك وبذلك  نحقق مصالح الغرب ومصالحنا في الوقت ذاته ولكن تشبث كل جهة بفكرته كأنها دين منزل من السماء سيؤدي لا محالة إلى خلق طرف ثالث يكون بديلا عن الإثنين وخلاصة التناقضين وهي مسألة وقت لا أكثر.

مشاركة :