قبل الخوض في هذا المقال، أود مناولتك ما يستلزم خوضك في أسلوب مقالاتي. اعلْم أنني حينما أسميك من خلال حديثي بـ"صديقي"، فليس بالضرورة أن أعني البعد الحقيقي من الكلمة، فمن المحتمل أن تكون عدواً لي هذا وارد، وما فعلته عن أمري ذلك لكي أجذب انتباهك معي في الحديث، فقد أشير إلى أمر هام أو قد أستغيث بك، أو لربما غير ذلك، من الممكن أن تكون كلمة "صديقي" واقعة على ذاتك الصديقة لي، فأقودك إلى نصح، جائزٌ أن يكون اللفظ واقعاً على أُناسٍ أظهر لهم امتناني أو أتناول نقدهم بأسلوب أو بآخر، ومن الممكن كذلك أن يكون مجازاً عن مؤسسة أو جهة سيادية، وفي الغالب ستكون هذه الجهة هي "مؤسسة التربية والتعليم" وما تحويه. هل لك من سؤال؟! أعتقد إجابتك "لا"، إذا ما أنا بمزحزحك عن الوقوع في خطأ الاستدراك. قيل للمهلب بن أبي صفرة الأزدي: ما لنا نراك قد أدركت ما لم يدركه غيرك مع أن غيرك يعلم مثلما تعلم؟ ماذا قال المهلب في جواب أولئك الذين سألوه فقالوا له: "إننا نعلم كثيرين قد حملوا من العلم مثلما حملت، ولكن إدراكهم وإفادتهم في هذا العلم ليست مثلما عندك"، فقال لهم المهلب: "ذاك علم حمل وهذا علم استعمل ". إذًا يا صديقي فالعلم الذي يحمل لا يفيد وإنما يزيد نسخاً من كتب وتلاميذ ذلك العلم في البلاد التي يوجد فيها ذلك الإنسان، وإنما ذلك العلم ما هو إلا آت عن تلقين دون ممارسة، كالذي يحفظ ويسرد وسموه في زماننا مدرساً، وإنما هو في الحقيقة دون تبصر فيقَّوم به اعوجاج نفسه ولا تبصير فينفع الآخرين بحقيقة العلم، وأما النوع الآخر وهو غير المشهود أو ربما نقول كعملة نادرة صعبة وهو العلم المستعمل هو المستفاد منه بالتبصر والتبصير، فهذا هو كل العلم وهذا ما أشار إليه الإمام الغزالي في كتبه الذي مرَّ شوط طويل في مجالات التعليم والتعلم وأصول التعليم والتعلم التي كانت وما زالت منهاجاً لمن يطرق هذا الموضوع. في مرحلة تعليمها منذ سنوات لم يستوقفني في تلك الفتاة مواهبها الجمَّة في الشعر والقصيد والنثر والخطابة أو ينوبني من ذلك اهتمام مثلما كان يستوقفني جيدها في الحفظ وسرعة كلامها التي كانت أشبه بسرعة سيارة "ألمانية" يقودها شاب "سعودي" على مضمار سباق "فورميلا"، لا أحد يستطيع أن يستوعب كلاماً بهذه السرعة ما لم يرزق موهبة عظيمة، نعم يا صديقي هكذا كنت أتناول وأصدقائي (نُمُوَّ موهبتها)، ولم يستحضرني قط حديث المهلب ولا أن هذا ناتج عن أسلوب ومنهجية هذا المعلم التي لطالما مكث في بلد زادت نسخاً منه. لم أستشعر في حياتي طيلة دراستي منذ الابتدائية إلى الثانوية مروراً بالإعدادية ما أقول، ولكني حينما توجهت للجامعة واستكملت فيها مراحل دراستي لم أتحمل تلك الظلمات ولا هذا العناء قط، إلى أن عاهدت نفسي أن أبذل ما بوسعي لله وللمجتمع ولأبنائي الذين سيتوالون ولأصدقائي الذين لطالما اجتهدت في ذلك أن يوسع الله لهم من رحماته إلى أولئك الذين أصبحوا مجرد سلعة كسائر المنتجات، فجُعِل لهم خط إنتاج يمتد من الابتدائية إلى الجامعة مروراً بالإعدادية والثانوية، فإن كانت علبة التونة تحتاج إلى مراحل إنتاج، فإن زيداً من الناس يحتاج - في نظر التعليم الأكاديمي - إلى مراحل لا تختلف أبداً عن سائر البشر، وبطريقة أخرى فهذا يشبه صرف دواء موحد لمرضى السكري والسرطان وما خطر على بالكم من الأمراض، إلى أن صرنا في تعداد الأمراض ليس فقط أمراض التعليم، بل أمراض الأخلاق التي أدت بنا لهذه النتيجة مخالفة تلك القوة التي وضعها الله فينا، وما إن صاح هؤلاء الضحايا، فكأنما تعليقاتهم صادرة عن روبوتات، ليس وكأنهم شباب أنهكتهم مؤسساتكم التعليمية وغرروا بسراب كاذب فحسبوه ماءً حتى إذا جاءوه لم يجدوا شيئاً. لمست في نفسي زيغاً في زماننا هذا بعد ما دونت ذات مرة على صفحات التواصل الاجتماعي تدوينة كدت أكتب فيها: "أنا لا أخضع لمعظم من تسمونهم معلمين كونهم معلمين" في الحقيقة كلماتي هذه جاءت مخالفة تماماً لأخلاقيات المتعلم قريبة جداً لواقعنا هذا، ليس وإن كانت من منطق أن الطالب بعد أن وجد إن التعليم أصبح أمراً تقليدياً فقد تخفى عليه وقتئذ الواجبات وقدسية العلم والتعلم، ولكنها جاءت لما يستعمله المعلم تجاه المتعلم من أساليب لا تفيده تماماً. صديقي.. نحن نتعامل مع مقررات لا منهج والفارق كبير حد السماوات والأرض، لا بد أن يقرأ المتعلم تأهباً لتوسيع أفقه وملء أرفف مكتبته، ويقتبس نوراً لحياته العملية فيما بعد، لذلك فمن المعروف في 28 دولة حول العالم أن يكون من المقرر على الطالب بعض الكتب التكميلية لتعينه على ذلك، فعلى سبيل المثال لا الحصر في الولايات المتحدة الأميركية يطلب من جميع الطلاب قراءة رواية "أن تقتل عصفوراً محاكياً" فتلك الرواية الكلاسيكية تجمع بين قصة نضوج مؤثرة وعاطفية وفكاهية وبين موضوعات جادة كالتفرقة العنصرية والمحاكمات الجنائية، فقراءة الرواية تعد جزءاً مكملاً للتجربة التعليمية الأميركية لدرجة أن القائمين على موقع "تيد " تساءلوا: ما هي الكتب الكلاسيكية التي يقرأها الطلاب في البلاد حول العالم؟ من مصر أخبركم كنا ندرس كتاب "الأيام" الذي يعد سيرة ذاتية لصاحبه الكاتب المفكر "طه حسين" الذي عاش في الفترة ما بين 1889 و1973 فقد بصره في عمر الثالثة، لكنه نجح في أن يصبح وزيراً للتعليم في مصر، تساءل زملائي يوماً: لماذا تُدَرَّس؟ أقول لكم: إن الكتاب يعلم الطلاب "أهمية تحصيل العلم"، والحاجة للتمرد على التقاليد والآثار السلبية للجهل على الأفراد في المجتمع. لم تأتِ تساؤلات أصدقائي إلا فيما بينهم ولم يوجه أحدهم مثل هذا لمعلمه، فكما لو كان منهجهم يعلمهم ذاك أو كما اعتادوا ذلك، فهو لا يجد في المقام الأول نفسه ولدَ المعلمِ، ولداً روحياً له، كما كتب في ذلك فقهاء وعلماء ومنهم محدثون، وأشير أيضاً إلى ما كتبه حجة الإسلام "الإمام الغزالي" رحمه الله، فقد أوسع القول في كتابه "إحياء علوم الدين" عن أخلاق العالم والمتعلم، وكتب رسالة سماها "أيها الولدُ" وجهها لطالب العلم، ولكن لا يستدعيني أن أطيل فيها، ولكن الإشارة من خلال حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها الكفاية كقوله: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم" ها هي الشفقة على متعلمي العلم منه، فهو يعتبر أن مهمة التعليم إنما هي رعاية والدية، ولادة روحية، ولكن يستحضرني أن أنقل لكم ما أخبرني به صديقي وحكيمي من قول: "تِبْنٌ على المَاءِ مَا قالت مدارسُنَا وَكُلِ مَنْ علَمُونَا كُلهم كذَبُوا" ويؤسفني ذلك. صديقي المُعلِم ليس بالعزيز.. أنت تعلم وليس بجيد أن من واجباتك كمعلم أن يكون فيك جانب من التطوع والتبرع، وتعلمُ أيضاً وليس بجيد أن من العلماء قديماً من كانوا يحضون على تعليم العلم وإغناء الناس به وإرشادهم دون أجر ودون حسبة، كذلك تعلم وليس بجيد أن جزاء من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، بل إنني أعلم جيداً أن لا يصلح أمر الناس إلا بترتيب ما يجعل لك كفايتك فيفرغ قلبك وتستعد نفسك. فيا صديقتي هذا المعلم ألا آن أن تعقدي معه صلحاً فهو راجع نفسه وهمَّ بصلاحها، سيعطي أكثر مما يأخذ بل سيعطي دون أن ينتظر أن يأخذ، ومن صلاح نفسه سيعلمكم أن عطاءه يكون أجل وأعظم بكثير مما يأخذ، وسيعلم جيداً أيضاً ما جاء في الأثر من سنة الحبيب في قوله: "علموا الناس على قدر عقولهم أتحبون أن يكذب الله ورسوله"، فيا صديقتي نأمل ألا يكون خطابنا القادم لصديقتنا كفيلة التضامن الاجتماعي بأن تنظر للأمر بجدية. أما معلمي في الجامعة المصرية ، فأظن أن الأمر ليس بيسير، وأنه فقط لو علم أن المرء عدو ما جهل، وأنه ما إن أدرك شيئاً فقد فاتته أشياء، وإن من حق العلم عليه ألا يغض من شأن متعلميه ولا من علم الآخر، بل يدع الفرصة للآخرين ليجدوا موطأة أمامهم ولا يجد في نفوس هؤلاء الطلاب من أمامه وحشة من علم يلقونهم إياه، ويكون متسماً بالحكمة ومراعاة التناسب فلا يعطي المتعلم إلا ما جاء عن دراسة فيما يستوجب المتعلم على القدر الذي يتلاءم مع مدة دراسته؛ كي يدركه ويتقنه، ليس وإن كان هو ذاته -المعلم- لا يدركه من الحكمة سوى أنه بخلاف ذلك يقسم الكم على المدة فيستقبل طالب العلم حشواً من العلوم فقط المحمولة بلا فائدة. يا صديقي.. وفي الحديث بقية عن المناهج والمقررات وأساليب التمدرس المتبعة في العلوم الوظيفية التي من المفروض أنها الأكثر استعمالاً، وسنسرد لكم -ونرحب بتعليقاتكم - ما يحول بين الطالب الجامعي والجامعة من خلال استطلاعات لأسئلة أكثر شيوعاً.. شكراً لك يا صديقي. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :