بَدَت للوهلة الأولى وكأنها وسط عائلتها، فبجانبها تجلس امرأتان ويقف أمامهما شاب يخاطبهما واقفاً تارةً وجاثياً على ركبتيه تارةً أخرى، محاولاً سماع صوتها. ولكن عندما اقتربتُ من المحطة أكثر وسلّطت عينيّ عليها، بدا الوضع أكثر توتراً وغرابةً. "أعطِني رقم أحد أبنائك"، هكذا طلب منها الشاب وفي عينيه الشفقة وفي صوته الاهتمام بالأمر، ولكن كان واضحاً أنها تتهرب، كلما همّت بالرحيل، أصرّ ثلاثتهم على بقائها "... ستذهبين وحدك؟"، "ما من أحد هنا لي......!"، "فقط أخبرينا عن نقطة توجهك لـ....". كنت أسمع مقتطفات من حديثهم، وكلما أعطاها الشاب الهاتف في يدها ملحّاً عليها أن تتصل، نفرت وتركته وهمت بالرحيل حتى أمسكها الشاب من يدها ذات مرة قائلاً: "أملِي عليّ رقم أحد أبنائك ليأتي ويأخذك"، حينها قالت بصوت متقطع ضعيف الحيلة: "بلاش ولادي أخاف أن أتصل بأحدهم". "وماذا يُخيفك يا أمي؟" بدأت حواري معها، وأنا مشدوه مما قالته، كيف تخاف أُم من أبنائها وهي من كانت سبباً في وجودهم؟! نظرت في عينيها المتعبتين آملاً أن تشفي غليل صدري، ولكنها قالت في بؤس: "فقط أود الذهاب إلى أقرب قسم شرطة". أخذت بيدها لنعبر الشارع، فإذا بي أُمسك بيد معظّمة تحكي سنين من الفقر والتضحية، وإذا بها في عباءتها المهلهلة تتمايل في غير اتزان. وقفت عند أقرب شرطي لأَدَعها تحكي له ما يختلج في صدرها، ولكنها اكتفت بترديد طلبها: "أود الذهاب إلى قسم الشرطة"، فأخذ الشرطي بيدها واصطحبها إلى الحافلة، واختفت في غضون دقائق. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :