انطلاقا من الإيمان بأن القومية العربية لا تتعارض ووحدة الأمة الإسلامية، وأن تراثهما هو تراث واحد، وهو جزء من تراث الحضارة الإنسانية، فرض الدستور في المادة (12) على الدولة التزاما بصيانة التراث الإسلامي والعربي. تناولت في مقالي الأحد الماضي تحت هذا العنوان، هذا المنهج في تبنيه ركائز كل من الوحدتين الوطنية والعربية، بدءا بالركائز التقليدية، وهي وحدة الدين والقومية واللغة، دون إغفال للركائز القوية التي قامت عليها بعد ذلك بفترة طويلة الوحدة الأوروبية وهي التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان والاقتصاد. وفي تناولي للدين بدأت الشورى كمنهج إسلامي تبناه واضعو الدستور، والنظام الديمقراطي، وهو الصورة المستحدثة التي أفرزها تطور الفكر الإنساني لنظام الشورى، ثم أثنيت على حرية العقيدة في الإسلام وتبني الدستور لها في المادة (35). المساواة واستطردت إلى ما نص عليه الدستور في المادة (29) من أن الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، باعتبار المساواة منهجا إسلاميا، حرص الدستور في النص عليها، بين الناس جميعا في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الدين، أو أي صورة أخرى من صور التمييز. ونتناول في مقال اليوم قيما إنسانية أخرى حفل بها الإسلام وتبناها الدستور وهي: العدل وقد اعتبر الدستور العدل مع الحرية والمساواة في المادة السابعة دعامات المجتمع الثلاث، والإسلام قائم على العدل في قول المولى عز وجل "وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ"، ويقول سبحانه مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم "وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"، ويقول الرسول، صلى الله عليه وسلم "عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة"، ويقول الإمام أبو مسلم الخولاني: "إذا عدلت مع أهل الأرض جميعا وجرت في حق رجل واحد فقد مال جورك بعدلك". الأسرة أساس المجتمع فيما نصت عليه المادة (6) من الدستور على أن الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق وحب الوطن، يحفظ القانون كيانها ويقوي أواصرها، والأسرة هي كذلك أساس المجتمع الإسلامي: التعاون والتراحم كما نصت المادة (7) من الدستور على أن "التعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين"، وفي هذا السياق يقول النبي صلى الله عليه وسلم "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"، وقال أيضا "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا"، وأكد أن الله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه، كما قال "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به"، امتثالا لقوله تعالى "إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى* وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى". وأين نحن من وصية جبريل للنبي كما أخبرنا عليه الصلاة والسلام "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"، فالتكافل والتراحم يدعواننا إلى تفعيل فريضة الزكاة (الركن الثالث للإسلام) وإخراج النصاب الذي أمرت به الشريعة وجوبا لا تفضلا أو اختيارا، فضلا عن الصدقات وما أوسع أبوابها وأعظم فضائلها. التراث الإسلامي والعربي انطلاقا من الإيمان بأن القومية العربية لا تتعارض ووحدة الأمة الإسلامية، وأن تراثهما هو تراث واحد، وهو جزء من تراث الحضارة الإنسانية، فرض الدستور في المادة (12) على الدولة التزاما بصيانة التراث الإسلامي والعربي. الحضارة الإنسانية ولم يفت الدستور في المادة (12) النص على التزام الدولة في الوقت ذاته بالإسهام في ركب الحضارة الإنسانية، إيمانا بدور هذا الوطن، كما جاء في ديباجة الدستور، في خدمة السلام العالمي والحضارة الإنسانية، وسعيا نحو مستقبل أفضل ينعم فيه الوطن بمزيد من الرفاهية والمكانة الدولية. الشريعة الإسلامية والتي اعتبرها الدستور في المادة (2) مصدرا رئيسا للتشريع، وكان دستور الكويت هو أول دستور عربي ينص على اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسا للتشريع الوضعي. ومن دستور الكويت أخذ الدستور المصري عام 1971 هذا الحكم في المادة الثانية منه، ثم عدلت هذه المادة في الدستور الأخير في عام 1980 لتصبح الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع. ويحُمل هذا الحكم المشرع- كما جاء في المذكرة التفسيرية للدستور- أمانة الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية ما وسعه ذلك، ويدعوه إلى هذا النهج دعوة صريحة واضحة. تجديد الخطاب الديني كما تدعو المذكرة التفسيرية للدستور، وهي ملزمة شأن الدستور ذاته، دعوة صريحة إلى تجديد الخطاب الديني، عندما تقرر أن نص المادة الثانية من الدستور لا يمنع المشرع "من استحداث أحكام أخرى في أمور لم يضع الفقه الإسلامي حكما لها أو يكون من المستحسن تطوير الأحكام في شأنها تمشيا مع ضرورات التطوير الطبيعي على مر الزمن"، ولا يفوتنا أن نشير إلى أن ما جاء في المذكرة التفسيرية للدستور من تطوير أحكام الشريعة الإسلامية تمشيا مع ضرورات التطور الطبيعي، إنما جاء عطفا على ما قررته المذكرة من أن المقصود بالشريعة الإسلامية هو الفقه الإسلامي، فهو وحده القابل للتطوير والتجديد، أما ثوابت الدين الحنيف التي جاء بها نص في القرآن أو في السنة المؤكدة الثابتة المتواترة، فهي لا تقبل التعديل، أو التطوير. الميراث حق تحكمه الشريعة الإسلامية ولا تنطبق الدعوة إلى تحديد الخطاب الديني، على الحملة التي تقودها الجمعيات النسائية والحقوقية في تونس الشقيقة للمطالبة بمساواة المرأة بالرجل في الإرث، وتعديل القانون التونسي بما يحقق ذلك. ولعل ما يجري الآن في تونس يؤكد ويكشف عن ثاقب نظرة الرعيل الأول الذين وضعوا دستور الكويت عندما حرصوا على النص في المادة (18) على أن "الميراث حق تحكمه الشريعة الإسلامية"، ليمنعوا المشرع من الأخذ بأي مصدر آخر من مصادر التشريع في الميراث غير أحكام الشريعة الإسلامية.
مشاركة :