أصبحت ظاهرة تقليد البضائع والمنتجات وبيعها على غير حالتها الحقيقية، وباء يصيب كل شيء، بداية من المواد الغذائية، مروراً بالملابس والأحذية والحقائب والاكسسوارات وأدوات التجميل والعطور، وصولاً إلى قطع غيار الأجهزة الكهربائية والإلكترونيات والأدوات المنزلية ومتطلبات البناء والمقاولات، حتى غدا لكل شيء «أصلي» نظيره «المقلد»، الذي ربما يتفوق عليه تجارياً. انتشرت في الآونة الأخيرة داخل الأسواق الكويتية ظاهرة "الغش التجاري" بمختلف أشكاله، بشكل يدعو للقلق، ورغم جهود الأجهزة المعنية في مكافحة هذا الغش ومصادرتها كميات كبيرة من "المنتجات المغشوشة" وتحرير مئات المخالفات ومحاضر الغش، فإن مراقبين يرون أن الطريق مازال طويلاً للسيطرة على تلك الظاهرة، خصوصاً مع وصول الأمر ببعض التجار إلى الهمس في آذان المستهلكين المقربين إليهم: هل تريد النسخة الأصلية أم المقلدة من هذا المنتج؟! في مشهد يلخص الحالة التي وصلت إليها الأسواق التجارية. فرق الطوارئ بوزارة التجارة أعلنت تحرير 369 مخالفة غش تجاري خلال النصف الأول من 2017، بينما صادرت بلدية الكويت 19 ألفاً و789 طناً من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك خلال الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، إضافة لإغلاق مئات المحلات وتحرير مئات المحاضر والمخالفات وهو ما يكشف بعض جوانب الازمة ومدى انتشارها. وفي سياق تقييم تلك الظاهرة، يشير اقتصاديون لـ"الجريدة" الى أن الغش التجاري يآخذ في التمدد في السوق دون رادع قوي، مرجعين السبب إلى جشع بعض التجار، ولضعف العقوبات المقررة في القانون، حيث إن المشرّع يخير القاضي بين تغريم المتهم أو حبسه، وغالباً ما يتم توقيع عقوبة الغرامة، ما يشجع كثيرين على معاودة أنشطتهم المخالفة للقانون. ويعزو البعض انتشار الظاهرة إلى المبالغات في أسعار "الماركات" حيث يستغل البعض فارق السعر الكبير لصالحهم، فضلاً عن اندفاع الطبقات غير القادرة إلى المنتجات المقلدة للظهور بمظهر اجتماعي مميز، في وقت يرجع آخرون الظاهرة إلى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وأيضاً ضعف الرقابة الحكومية، إضافة إلى انعدام الضمير وغياب قيم الصدق والأمانة، وضعف الوعي لدى المستهلكين. ولم تتوافر أي إحصاءات حديثة ودقيقة عن حجم أموال الغش التجاري، لعدم وجود هيئات وإدارات معنية بمتابعة ودراسة الأموال الناجمة عن هذه الأنشطة في أغلب الدول، وبخاصة البلدان العربية، بينما قدرتها بعض الدراسات بأنها تتراوح بين 780 ملياراً إلى تريليون دولار عالمياً كل عام، أما في الوطن العربي فقدرتها الدراسات بحوالي 56 ملياراً سنوياً، في حين رأى متخصصون أن هذه الدراسات لا تعكس الواقع بشكل صحيح، وأن حجم الأموال المتداولة في أنشطة الغش التجاري تفوق هذه الأرقام بكثير. طوفان الغش ويؤكد الخبير المالي، محمد الثامر، أن هذه الظاهرة تؤدي حال تضخمها بشكل كبير إلى انهيار اقتصادي للدولة، وخسائر فادحة للشركات والمؤسسات والتجار، مشدداً على ضرورة محاربتها بشتى الطرق الاجتماعية والقانونية، مضيفاً أن عالم اليوم اختلفت فيه المفاهيم، حيث أصبح الغش طوفانا ونمطاً سائداً، والنزاهة حالة شاذة، وتضاءلت فرص التاجر الملتزم في بيع سلعته أمام طوفان السلع المزورة رخيصة الثمن. وذكر الثامر أن تزوير مصدر المنتج أو السلعة هو أخطر أنواع التزوير، كونه يخلق حالة من الريبة وانعدام الثقة في السوق، لشعور المستهلك بالخديعة عند اكتشافه حقيقة المنتج مجهول المصدر. وأشار إلى أن الإحصاءات التي تقدر حجم أموال الغش التجاري عالمياً بحوالي تريليون دولار غير دقيقة، متوقعاً أن الرقم العالمي أكبر من الألف مليار بكثير، كون الظاهرة مستفحلة عالمياً، مبديا استغرابه لعدم توفر إحصاءات دقيقة لحجم الأموال الناجمة عن عمليات الغش، ما يفتح المجال لتنامي الظاهرة. ودعا الثامر لإنشاء إدارات مختصة بمراقبة هذه الأنشطة وإحصاء الأموال الداخلة في نطاقها، لتحديدها وحصارها، مشدداً على ضرورة توفر قاعدة بيانات دقيقة تساعد المسؤولين في ضبط وفلترة الأسواق. غياب الرؤية بدوره، قال الرئيس التنفيذي للشركة البحرينية الكويتية للصيرفة، علي عبدالمجيد الزلزلة، إن الغش التجاري على أوسع ما يكون في دولة الكويت، سواء في أسواق التجزئة أو الأسواق الكبيرة المعروفة للمواطنين. ورأى الزلزلة أن المسؤولية الأكبر في تنامي الظاهرة تقع على بعض التجار الساعين للكسب المادي دون اعتبار للقانون، مندداً بما يقوم به بعض التجار من جنسيات عربية في بعض الاسواق الكبرى من غش وتزوير للمنتجات، حيث يبيعون مثلاً "مصباحا كهربائيا" على أنه منتج ثمين ونادر، وهو في حقيقته مجرد منتج صيني ضعيف الجودة. وأكد أن غلاء المنتجات الأصلية ساهم في رواج المنتجات المقلدة، حيث تقبل الفئات الاجتماعية غير القادرة على شراء المنتجات مجهولة المصدر الشبيهة بالأصلية سعياً للظهور بمظهر اجتماعي راق، خصوصاً في الملابس والأحذية والأكسسوارات. إلى ذلك، يقول أستاذ الاقتصاد في كلية العلوم الادارية بجامعة الكويت، د. نايف الشمري، إن الاقتصاد الوطني يشمل عدة قطاعات تمثل النشاط الصناعي، والزراعي، والسلعي، والخدمي وغيرها من قطاعات الانشطة الاقتصادية الأخرى، واﻟﻐش يقع ﻓﻲ ﻫذﻩ الانشطة الاقتصادية مما يترتب ﻋﻠﻴﻪ خسائر كبيرة للاقتصاد اﻟوطﻨﻲ، لذلك فإن للغش والتزوير تأثيراً كبيراً على الأعمال التجارية، بغض النظر عن حجمها، حيث تختلف تكلفة الغش التجاري الفعلية من شخص لآخر ومن بيئة لأخرى ومن قطاع لآخر، ومن اقتصاد لآخر. وأضاف الشمري أن هناك عدة اسباب لبروز الغش في الاقتصاد الكويتي سواء ﻛﺎن غشاً صناعيا أو تجارياً أو خدمياً، ومن أهم تلك الاسباب ضعف وجود المنافسة التجارية، وعدم وجود ثقافة استهلاكية واستثمارية رشيدة، إضافة لتفشي الجانب الاعلامي غير الرسمي لتسويق البضائع المقلدة أو المغشوشة من خلال انتشار الاعلانات التجارية ووسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك تدني المستوى الاخلاقي لبعض الباعة، واخيراً ضعف تطبيق الجهات المعنية لدورها الرقابي بالشكل السليم. طرد المستثمرين وأوضح أن من الآثار السلبية للغش التجاري إلحاق الضرر بالشركات وأصحاب العلامات التجارية وخلق بيئة غير جاذبة للاستثمار، كما أن الضرر يشمل المستهلك بالشكل المباشر، خاصة عندما يرتبط الأمر بالسلع المقلدة التي يتم بيعها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية. وذكر أن هناك تجارب لدول عدة ناجحة في مكافحة الغش التجاري بهدف تفادي آثاره السلبية، ويتمحور الجانب الأساسي من طرق مكافحة الغش التجاري في وجود نظام متكامل لحماية المستهلك يتسم بالسهولة في التطبيق والمرونة في التعامل، مع التشدد في الضبطية عند وجود المخالفة. تشديد الرقابة وأكد الشمري ضرورة تبني الجهات المعنية استخدام الأجهزة الجديدة خاصة في مجال التكنولوجيا للفحص الإشعاعي بحيث يسهل التعرف على المواد الممنوعة والأسلحة والمتفجرات والمخدرات وغيرها، ما يسهم في تعزيز دور الاجهزة الجمركية في مجال الرقابة، وكذلك لابد من تشديد الرقابة على الواردات والصادرات لمنع دخول أي بضائع مغشوشة أو مقلدة أو مخالفة لقوانين حقوق الملكية الفكرية أو تتعارض مع المواصفات والقياسات المسموح بها محلياً. وأشار إلى أهمية تطبيق رقابة شاملة على التجارة الإلكترونية من خلال الاطلاع على المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي تروّج للغش والتقليد، وكذلك لابد من التشديد على الإعلان التجاري للمحال التجارية بحيث يكون متناسقاً مع النظام العام والآداب العامة، ولا يكون كاذباً أو مضللاً أو خادعاً مما يجعل المستهلك فريسة سهلة لهذا الغش، لذا يجب أن يشمل الاعلان التجاري بيانات كافية وشاملة وحقيقية عن السلعة أو الخدمة المقدمة والتي من شأنها أن تخلق فكرة واضحة وواقعية عن السلعة أو الخدمة لدى المستهلك البسيط. طغيان المادة بدورها أكدت أستاذة علم النفس بجامعة الكويت، د. فاطمة عياد، أن تغير المعايير الاجتماعية وطغيان المادة يدفعان غير القادرين لشراء "الماركات المقلدة" للظهور بمظهر اجتماعي يعطي إحساسا بالراحة المادية وامتلاك مقومات الرفاهية، مشيرة إلى أن النفس الإنسانية بشكل عام جبلت على حب الجمال واللمسات الفنية، ولا مشكلة في اقتناء الأشياء الثمينة لمن يملك القدرة على شرائها، لكن المشكلة تكمن في أصحاب القدرات المالية المحدودة، حيث يدفع بعضهم السعي للحصول على قيمة واحترام أكثر بين الزملاء إلى الاقتراض لشراء "ماركات" تضفي عليهم رونقا اجتماعيا، وهو ما يؤثر على معيشتهم ومتطلبات أسرهم. وبينت أن المبالغة في تقليد "الأغنياء" و"نجوم المجتمع" لها دوافع نفسية كثيرة، أبرزها الشعور بالنقص، ورفض الواقع غير المُرضي، وحب الظهور والمباهاة، والسعي للاحساس بالتفوق، مؤكدة أن هذا السلوك يؤدي إلى تعاسة الإنسان داخلياً مهما بدت عليه علامات الرضا والسعادة. دورات لمفتشي «التجارة» لمجاراة طرق الغش الحديثة صرح وكيل وزارة التجارة والصناعة المساعد لشؤون الرقابة التجارية وحماية المستهلك، عيد الرشيدي لـ«الجريدة» أن فريق طوارئ الرقابة التجارية حرر 369 مخالفة غش تجاري خلال النصف الأول من عام 2017، معظمها تزوير في بلد المنشأ، وأغلبية المخالفات جاءت في المواد الاستهلاكية ومواد التجميل والعطور والأجهزة الكهربية والملابس. وبيّن أن الوزارة تعمل على تطوير قوانين الغش التجاري، وتدرس زيادة العقوبات لتكون رادعة للمخالفين، حيث إن «الغشاشين» يستخدمون طرقا مبتكرة وغير تقليدية في عمليات الغش والتقليد، ما دفع الوزارة إلى إخضاع المفتشين لدورات تدريبية دورية لتوعيتهم بأساليب الغش والتزوير التي تتطور باستمرار. وذكر أن لديها مجموعة من المفتشين الخبراء يكشفون بشكل دوري على المحلات والأسواق، للتأكد من سلامة السلع والمنتجات ومطابقتها للمواصفات، كما أن لديهم معلومات تحدث باستمرار عن الأسواق والتجار، ويرفعون تقاريرهم بشكل دائم، مشيراً إلى تعاون الوزارة مع مختلف الجهات والدوائر الحكومية. وأكد تعامل الوزارة بشكل جاد وصارم مع الشكاوى التي ترد إليها، موضحاً أن لديها 21 مركزا موزعة على مختلف مناطق البلاد، ومستعدة لتلقي شكاوى المواطنين، كما أن الخط الساخن 135 يعمل على مدار الأسبوع وخلال العطل والإجازات. مكافحة تقليد العلامات التجارية وحماية الأصلية أكد الوكيل المساعد لشؤون المنظمات الدولية والتجارة الخارجية، في وزارة التجارة والصناعة، الشيخ نمر الصباح أن هناك جهودا مكثفة لمكافحة ظاهرة تقليد العلامات التجارية، وحماية العلامات الأصلية، والمحافظة على الملكية الفكرية. وأضاف الصباح أن إدارة العلامات التجارية وحماية الاختراع في الوزارة تحظى بعضوية «لجنة المقلد» و»لجنة تنسيقية لحماية الملكية الفكرية» مشكلة من عدد من الجهات الحكومية الأخرى لمواجهة هذه الظاهرة، موضحاً أن تلك اللجنة التنسيقية تضم ممثلين لعدة وزارات، هي الاعلام والداخلية والصحة والتجارة والصناعة والإدارة العامة للجمارك وبلدية الكويت، فيما تتكون لجنة المقلد من ادارة العلامات التجارية وبراءة الاختراع وإدارة الرقابة التجارية. وبين أن العمل الرئيسي لهاتين اللجنتين هو حماية العلامات التجارية وقمع الغش والتقليد، مشيراً إلى أن تقليد العلامات التجارية موجود في جميع دول العالم، ومحاربته تحتاج عملاً جماعياً بين الوزارات والإدارات المذكورة سابقا، واللجنتان تعملان بكل جهد في هذا الإطار. تغليظ العقوبات أكد المستشار القانوني شوكت عز الدين أن العقوبات المقررة في القانون على ظاهرة التزوير والغش التجاري غير كافية، وعلى المشرع تغليظها على المخالفين، موضحاً أن تفاقم هذه الظاهرة وامتدادها لكافة الأنشطة الاقتصادية لن يجدي معهما التشريع الذي يخير القاضي بين الغرامة والحبس، «فنحن بحاجة لتشديد العقوبات وقصرها على الحبس فقط لتكون رادعة». وبين أن أغلب العقوبات في قضايا «الغش التجاري» تكتفي بالغرامة، ما يشجع كثيرين على ممارسته، لأن الغرامة عقاب سهل مقابل ما يجنونه من أموال طائلة من جرائمهم التجارية .
مشاركة :