إن أغلب التحولات العميقة والجذرية في العلاقات الثنائية أو الإقليمية بين الدول -تجارية كانت أو سياسية- فإنها غالباً ما تحدث بعد وقوع حدث سياسي جوهري قريب من مسمى حدث خارق للعادة، كمثل حدوث حرب مفاجئة أو ظهور حركات راديكالية متشددة أو صعود حركات سياسية لا يُتوقع صعودها في عملية انتخابية ديمقراطية وهكذا... فمثلاً في حالة حدوث حرب مفاجئة أو حتى عادية، فإن ظهور تحالفات دولية -كان من المستبعد ظهورها- هو أمر لم يعد مستغرباً في عالم السياسة مهما كانت الأيديولوجيات والمعتقدات السياسية والدينية بعيدة بين هذه الدول، فمثلاً كلنا يلاحظ التقارب الحالي بين بعض الأنظمة العربية وإسرائيل، ونوعاً ما فإن من أسباب هذا التقارب التغيرات والتحولات السريعة في العالم العربي، خصوصاً بعد الثورات العربية، وهذه الثورات الجميع يعلم أنها من أهم الأحداث الخارقة للعادة التي حصلت في القرن الـ21 والتي ما تزال تبعاتها تتوالى لغاية هذه اللحظة. وحتى بعد ظهور "الدولة الإسلامية" (داعش)، فإن العديد من الدول بدأت تتخذ مسارات مختلفة بشكل جذري عن مساراتها السابقة سياسياً؛ سواء كان ذلك لأهداف نبيلة أو غير نبيلة. لذلك فإن الواقع السياسي الحالي أثبت أن أي تغيير لن يأتي صدفة أو بعد محادثات أو مفاوضات هادئة. وفي الحالة الفلسطينية، فإن الجمود السياسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين لن يكون في مصلحة الضعيف طالما حافظ على الوضع الراهن كما هو عليه. ولكسر هذا الجمود، فإن على الطرف الفلسطيني أن يفكر خارج الصندوق وأن يصنع أو يتسبب في صناعة حدثٍ ما خارق للعادة. فان بقاء الفكر السياسي الفلسطيني على ما هو عليه لن يجدي نفعا؛ وتجربة أكثر من 13 سنة هي أكبر برهان. بالإضافة إلى أن بقاء المنظومة السياسية الفلسطينية على حالها هو أكبر خطر على السياسة الفلسطينية؛ بل إنه أكبر دليل على حالة التجمد الذي أصاب القضية الفلسطينية بتجميد أهم منابع التغيير السياسي، فبقاء الحكم والقرار في يد جهة سياسية واحدة في مجتمع متنوع الأيديولوجيات (حتى لو كان مجتمعاً صغيراً) -العلمانية منها والاشتراكية والإسلامية، وحتى اليمينية- دون استغلال وجود هذا التنوع في صناعة تحولات سياسية ضاغطة "خارقة للعادة" على المجتمع الدولي والإسرائيلي- فإنه يزيد من الجمود، ليبقى في مصلحة إسرائيل وداعميها، وخصوصاً بعد انحسار تنوع أيديولوجيات وسياسات مساندة للفلسطينيين من الدول العربية كحكومات ودول. لذلك، فإنه لزاماً على السياسي الفلسطيني أن ينقل الكرة التي في ملعب القومية العربية إلى الملعب الداخلي الفلسطيني؛ ليستغل وجود التنوع فيه بدلاً من كبْته ليستشري أكثر هذا الورم السرطاني داخلياً، وهو الانقسام الفلسطيني. وإن بقاء المنظومة السياسية الفلسطينية دون وجود إطار تشريعي ديمقراطي، فإنه يعود سلباً على المنظومة المجتمعية داخلياً والمنظومة السياسية خارجياً. فإن عدم وجود هذا الإطار التشريعي يعني انعدام فرص التغيير في الفكر السياسي المُجدي والمؤثر خارجياً، وانعدام فرص الإصلاح الثقافي الاجتماعي الاقتصادي والأمني داخلياً، وهذا الأمر هو متفق عليه أنه هو المفتاح الرئيسي لصناعة التغيير واستغلال التنوع السياسي الداخلي في تغيير طريقة تعامل الخصم معنا، بالضبط كما يتعامل هو من إدارة انتقال السلطة داخل الكيان دائماً بطريقة سلسة ديمقراطية، ليستغل تنوعه السياسي الداخلي في العملية التفاوضية من خلال طريقة المد والجذر بحسب الظروف المحيطة؛ أي إنه كلما تلاءمت الظروف مع وجود اليمين في الحكم، فإننا نرى صعود اليمين والعكس صحيح. وبالطبع، فقد لا يكون هذا صحيحاً 100%، ولكن طريقة صياغة الحكومات الداخلية هي ما يؤكد ذلك، وخصوصاً إدارة وزارة الخارجية ورئاسة الحكومة، فمن غير المستبعد عليهم إزالة رئيس حكومتهم بأي طريقة قانونية تتنافر مع نتائج العملية الانتخابية لديهم، إذا استدعت الضرورة كمثل ما حصل مع أولمرت. وفوق هذا كله، فإن كان الجمود غير مُجدٍ، أصبح من الضروري تجربة التغيير وخض قارورة السياسة الراكدة لإعادة ضخ الروح فيها لعلها تتمخض حلاً يميل لصالحنا ولو بقليل، فقليل منقطع أفضل من نهرٍ جارٍ. وباختصار أكثر، إن إجراء عملية انتخابية شاملة وجامعة للأطياف السياسية الفلسطينية كافة، هو من أحد المفاتيح الرئيسية التي يجب استعمالها لإعادة الهيبة للسياسي الفلسطيني والقضية الفلسطينية، فإن لم يصب هذا الهدف من الناحية السياسية الخارجية فيكفي أنه سيصيب الهدف داخلياً ويخلق أرضية سياسية وكياناً سياسياً كان مستبعَداً طوال الوقت، ولا أظنه يضر أكثر من الضرر الحالي. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :