استعاد الوسط الثقافي المصري والمسرحي تحديداً، في الآونة الأخيرة، نقاشه حول حضور المؤلف وقيمة مساهماته، بسبب نتائج الدورة الأخيرة من المهرجان القومي للمسرح التي كانت مهداة لاسم الناقدة الراحلة نهاد صليحة. تضمَّن النقاش نقاطاً عدة مثل الفارق بين التأليف والإعداد المسرحي والدراماتورجيا والاستيحاء، ثم نظرة الجيل القديم من المؤلفين المسرحيين- وهم غالباً من المحكمين- إلى الجيل الجديد، والكلام على غياب المؤلف المسرحي ذي القيمة الحقيقية أو عزوف القراء عن الاطلاع على الكتب المنشورة وتراجع الاهتمام بالنظر إلى تلك الأعمال وتحويلها إلى عروض مسرحية. ويبدو لي هذا النقاش متأخراً جداً، فهو يجسد حالة ممتدة يحياها الوسط الثقافي والمسرحي تحت السلطة المعرفية لـ «الكبار»، أو «حراس الثقافة والقيم». ولا يأتي هذا النقاش الآن إلا كذروة متأخرة لمحاولات الخروج من تلك العباءة وتعريف المبدع لنفسه بنفسه وخارج أطر الأحكام القيمية السلطوية. في مصر والعالم العربي مؤلفون مسرحيون على مستوى رفيع، وأيضاً لا يجد كثير منهم طريقه لعرض نصوصه على خشبة المسرح. تظل المسافة بين الكتابة والنشر، من جهة، والعرض المسرحي منجهة أخرى، ملغزة. ففي مصر مثلاً يُنشر عدد كبير من النصوص المسرحية المؤلَّفة في سلاسل الهيئة العامة للكتاب والهيئة العامة لقصور الثقافة، غير ما يُنشَر في الدوريات والمجلات الثقافية (مثل مجلة «فنون» وجريدة «مسرحنا») وما يحصل على جوائز في مسابقات، إلا أن كل النصوص المسرحية المنشورة لا تعرف طريقها بالضرورة إلى الإنتاج المسرحي. ربما صناع المسرح ومخرجيه ومنتجيه لا يلتفتون إلى المنشور من النصوص المسرحية، وربما يعتقدون أنه ليس مادة جيدة للعرض المسرحي، لأنهم يفضلون العمل مع المؤلف شخصياً وتطوير النص داخل مختبر مسرحي، ما يجعلهم يرون في النص المنشور مادة مغلقة على ذاتها وغير قابلة للتناول أو التعديل. وربما مجال النشر برمته يعطي انطباعاً بأن النص المسرحي هو نص أدبي لا مجال لدمجه في عمل مسرحي حي، ويرسخ ذلك الانطباع تلك القسمة الجائرة بين مجالي الأدب والمسرح، والنص المسرحي الحي والكتاب المسرحي المغلق على دفتيه. في كثير من الأحيان يتوقف الأمر على سعي المؤلف نفسه لعرض نصه على مخرجين قد يطيب لهم اكتشاف مادة جديدة، وهو مسعى غير مضمون مطلقاً. وفي أحيان كثيرة نجد صيغة المخرج/ المؤلف الذي يكتب نصه من الألِف إلى الياء أو يتولّى بنفسه الإعداد أو الدراماتورجيا. وأفضل مثال هنا هو الفنان محمد أبو السعود، فهو مخرج له باع طويل في الحركة المسرحية منذ تسعينات القرن الماضي ومِن خلال «مركز الهناجر للفنون والمسرح المستقل». لكنه في الآن ذاته كاتب مسرحي يكتب بلغة شعرية ويحصل على الجوائز الأدبية، مِن دون أن يرى أحد مفارقة ما في كونه مخرجاً ومؤلفاً معاً. في ظني أن واقعنا الثقافي يتغذى على التصنيفات والتقسيمات، وهي مفاهيم عتيقة ليست بالضرورة صالحة لزمننا هذا، سواء كانت بين مجالات إبداعية تحافظ على حدود هي في الحقيقة واهية، أو تقسيمات داخل المحال الإبداعي الواحد ترسخ لتوزيع ما للأدوار بهدف الحفاظ على السلطة. عندما نجري مقارنة بسيطة بين مسارات التأليف المسرحي في مصر وأوروبا سنجد ببساطة أن الحدود التي نقدسها هنا صارت مصطنعة ومزيَّفة. تقول المؤلفة المسرحية السويسرية- الألمانية دانييللا جانجيك: «يمكننا ببساطة أن ننظر إلى المؤلف المسرحي بوصفه كاتباً، فهو يكتب النص، لكنه يقوم أيضاً بالإعداد وبالدراماتورجيا، ويمكنه أن يكتب المقال والرواية مِن دون أي تعارض وبانسيابية تامة. أنا مثلاً أكتب الآن روايتي الأولى». لا ترى دانييلا إذاً أنها تنتقل من المجال المسرحي إلى المجال الأدبي بكتابتها للرواية، فهي ترى نفسها كاتبة سواء صنعت نصاً مسرحياً أو روائياً. إنها أيضاً –وبالمقدار ذاته- ترى أن الكاتب ضلع أساسي في عملية صناعة العرض المسرحي، فهو يتابع المتغيرات المسرحية والأشكال الملحة التي تظهر وعلاقتها بالواقع الاجتماعي، ومن ثَم يكتسب المعرفة الراهنة والحية التي تؤهله للمشاركة في نبض الإنتاج المسرحي. وفي تقديري أن نموذج المؤلف المنعزل عن مقتضيات الساحة المسرحية وتحولاتها الجمالية والقيمية هو بالضرورة مبدع يقصي نفسه بنفسه من حلبة الإنتاج. ويبدو أن هذا النموذج قارَب الانقراض، إذ يضع الجيل الجديد من المؤلفين أنفسهم دوماً وسط الأحداث المسرحية، ويحاول أن يشتبك مع العملية الابداعية الإخراجية كشريك حاضر طوال فترة صناعة العرض وحتى خروج العمل إلى الجمهور. هذا مثلاً ما تصنعه الكاتبة المسرحية المصرية رشا عبدالمنعم التي قدَّمت أخيراً نص «قواعد العشق الأربعون» للمخرج عادل حسَّان على «مسرح السلام» في القاهرة. فهي تابعت العمل وأجرت كثيراً من التعديلات خلال عامين مِن العمل المباشر مع المخرج. يمثل هذا النموذج مساراً مخالفاً تماماً لما أسَّسه الجيل القديم. إنه المسار الذي يتجاوز التقسيمات والفواصل وينظر إلى الكاتب كشريك في صناعة العرض مِن دون أن ينتقص هذا من قيمته الأدبية. دانييلا جانجيك تلفتنا أيضاً إلى أهمية الدراسة، فهي تخرجت في معهد الأدب حيث درست التأليف المسرحي، وهي الدراسة التي لا تتيحها معاهدنا وأقسامنا في مصر مثلاً، ولا أظن أن دراسة تاريخ الدراما ومدارسها هي ذاتها دراسة التأليف المسرحي، لا سيما إذا عرفنا أن الدراسات الأكاديمية المتوافرة في ألمانيا مثلاً تعمل على أساس مواد الكتابة الإبداعية وإتاحة الفرصة للدارسين للكتابة والتدريب العملي على إنتاج نصوص وعلى العمل الجماعي. وهذا نهجٌ مِن شأنه وضع الدارسين على طريق الكتابة المتصلة بإنتاج عرض حي ومِن واقع الممارسات المسرحية المطروحة، مع إمكان طرح النصوص التي يكتبونها على المنتجين ومديري المسارح، وبالتالي المساهمة في إدخالهم إلى الوسط المسرحي الاحترافي حتى قبل تخرجهم، فهكذا تضيق المسافات ويخرج المؤلف من التصنيفات الخانقة. نورا أمين روائية وفنانة مسرحية مصرية
مشاركة :