حياة رحبانيّة على جمر القلق: بين «هنا» و «هناك» وبين «ليل» و «نهار»

  • 10/17/2014
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لا تنفعل جديدة مرجعيون ولا تغضب. هي تمقت السياسة، ولديها صيغ كثيرة في إعلان مقتها هذا. وحين يتناول أهلها التطوّرات الكبرى لتاريخهم، يبدون كمن يؤرّخ ببرودة الجيران أحداثاً حصلت في غرف نومهم. فوق هذا، تراهم دائماً يصوّرون تلك الأحداث كما لو أنّها فاتت وصارت وراءنا. يقول واحدهم: «نعم، كان هناك احتلال إسرائيليّ...»، أو يقول آخر: «نعم، حصل تحرير...»، ثمّ يمضي كلّ منهما في تقريريّته التي يتساوى فيها كلّ شيء بكلّ شيء آخر. حياد سويسريّ! فالحقب الحادّة المثيرة للانفعال أو للانحياز، وتاريخُ جنوبيِّ الجنوب كلّه كذلك، يعالجونها بنزعة تكاد تكون سويسريّة. فكأنّهم، هناك في تلك الرقعة، قرّروا أن ينكروا، وأن يعلنوا الحياد من طرف واحد عن هذا الصخب حولهم وفي تاريخهم. فهم، مثلاً، حين يعمدون إلى تفسير عزوفهم عن الانخراط في جيش لحد، يقولون إنّ الأوضاع الاقتصاديّة لمن بقي من سكّان الجديدة فيها لم تحوجهم إلى ذلك، وهي الأوضاع نفسها التي أحوجت الآخرين الأفقر، من مسيحيّي القرى المجاورة ومن الشيعة والدروز، إلى الانخراط فيه. هكذا، تتداعى حلقات منطق وظيفيّ جدّاً، لا مكان فيه للقضايا الكبرى ولا لأيّة اعتذاريّة حيال مقدّس مفترض. وكانت حرب 2006 لسكّان الجديدة، ولعموم مسيحيّي المنطقة، مشهداً برّانيّاً قد يثير التعاطف مع الذين لجأوا إليهم من القرى الشيعيّة المنكوبة، إلّا أنّها لم تكن تورّطاً مباشراً، ذاك أنّ الإسرائيليّين «كانوا يقصفون النقاط التي يُقصف منها عليهم، وهي شيعيّة ينتشر فيها حزب الله. لهذا لم تُضرب القرى المسيحيّة»، كما رأى أحدهم بدقّة وصفيّة تتجرّد من أحكام القيمة. والكلام الذي يتردّد هنا مختلف عن السائد المعمّم. فهم لا يحبّون إسرائيل لأنّهم يكرهون الاحتلال، وقد كان انتقال معظم أهل الجديدة إلى بيروت ما بين 1982 و2000، مثلهم مثل باقي الجنوبيّين، تصويتاً بالأقدام ضدّ المحتلّين. بيد أنّهم ليسوا مستعدّين لمقاتلة إسرائيل أو لمقاتلة أيّ طرف كان، لأنّ القتال يحصل لآخرين في أمكنة أخرى. أمّا أن يلقي أحدهم صاروخاً عليها، فهذا اليوم أشدّ ما يكرهونه ويخافونه، كما يخافه باقي جيرانهم، لأنّه نذير بكابوس الاحتلال وباحتمال رجوعه. إلّا أنّ مقارنات الباحث، المُرّ حيناً والسينيكيّ حيناً والمحايد أحياناً، تتسلّل إلى بعض كلامهم. فهناك تسمع مثلاً أنّ المنظّمات الفلسطينيّة فجّرت مضخّة المياه لدى دخولها جديدة مرجعيون أواخر الستينات، وفي أوائل الثمانينات، أصلح الإسرائيليّون «الطامعون بمياهنا» تلك المضخّة وعزّزوها بتمديدات جديدة لا تزال تعمل حتّى اليوم. ولأنّ الجديدة لم تُعانِ قسوة إسرائيل كما عانتها قرى أخرى انتسب أبناء منها إلى مقاومة «حزب الله»، تسمع فيها من يشير إلى «حريّة التعبير» في زمن الاحتلال. فالإسرائيليّون «لا يعنيهم مَن معهم ومَن ضدهم، وتستطيع التعبير عن رأيك ما شئت طالما أنّك لم تنتقل إلى العمل العسكريّ ضدّهم». لكنّ الاستعارة الكبرى التي تكثّف الفوارق والمقارنات لديهم تبقى مستشفى مرجعيون. فهو، إبّان الاحتلال، شُغّل بكامل طاقته كما ضُمّ إليه مبنيان كبيران وكان يصرف عليه حوالى مليوني دولار سنويّاً. وحتّى الحالات الصحيّة المستعصية كان أصحابها يُنقلون إلى داخل إسرائيل عبر ما سمّي آنذاك «الجدار الطيّب». وهذا كلّه صار من الماضي، إذ أتى التحرير مصحوباً بعودة ظافرة للإهمال اللبنانيّ الشهير. فجديدة مرجعيون تقيم إذاً بين نفيين، عدم الانتساب إلى جيش لحد وعدم الانخراط في المقاومة. وللوفاء بمهمّة الحياد هذه، لا بدّ من أن تُدفع أكلاف، ولا بدّ كذلك من تعديل يطاول المكان نفسه: فالـ «هنا» تراها مخفّفة دائماً فيما الـ «هناك» كثيرة جدّاً. ذاك أنّ بيوتاً عدّة في الجديدة فارغة من أهلها المقيمين في أوروبا وأميركا، وبيوتاً عدّة يتخلّل أحاديثَ أهلها ذكرُ أقارب في الجامعة الأميركيّة في بيروت أو في أوكسفورد أو ستانفورد، يتواصلون معهم يوميّاً ويزورونهم هناك ويستقبلونهم هنا. فعندما يتحدّث أحد أعضاء البلديّة عن ضمانات بلدته، يشير إلى القوّات الدوليّة والقرار 1701، موحياً بأنّ العالم كلّه موصول بهذه الرقعة التي يحقّ لها أن تقلق من نزاعات الأهل المباشرين. وقد كان لافتاً، لدى اتّصالنا بأفراد من الجديدة لتحديد موعد معهم، أنّ أكثر من نصفهم تحدّثوا إلينا بالإنكليزيّة. وللّغات دائماً أجنحة تحمل إلى «هناك» أو تستحضره وتبثّه في الـ «هنا». وهذا فضلاً عن أنّ كثيرين منهم كانوا عائدين للتوّ من سفر إلى بريطانيا أو أميركا، أو كانوا يتهيّأون لسفر إليهما. «دفن» الأمّيّ الأخير وإذ يلتفت الزميل والروائيّ محمّد أبي سمرا إلى ورائه، يذكّرنا بأنّ الجديدة كانت في السبعينات حاضرة المنطقة الممتدّة من الخيام غرباً إلى شبعا في الشرق. فهناك المدارس وهناك المقاهي، وفيها يتمرّن الشابّ على أوّل الكلام مع فتاة أو على سهر تضيق به باقي المنطقة. صحيحٌ أنّ بعض أبناء جديدة مرجعيون انتسبوا، في حقبة سابقة، إلى أحزاب سياسيّة. هكذا نما فيها، هي التي عُرفت طويلاً بارتباطها بفلسطين وبالداخل السوريّ، قوميّون سوريّون كما وُجد عروبيّون تعلّقوا جميعاً ببلادٍ كانت ذات مرّة أكبر. كذلك عرفت شيوعيّين تداخلت في شيوعيّتهم نوازع العدالة والتقدّم وشيء من أرثوذكسيّة ينتمي إليها أكثر السكّان، أو كتائبيّين طمأنهم لبنان في الصورة التي ارتسم عليها فاستبدّ بهم الخوف من زوال صورته تلك. لكنّهم دائماً، ووفق وصف أحد أبناء الجديدة، «كانوا ينتسبون إلى الأحزاب في الجامعات، لا هنا»، والأهمّ أنّ جديدة مرجعيون لم تُنعم على تلك الأحزاب بقياديّين بارزين أو بمناضلين معروفين. وفي المعاني المخفّفة هذه، تتراءى العصبيّة الحزبيّة هناك شيئاً من الماضي يكاد يقتصر الآن على متقدّمين في السنّ هم حزبيّون سابقون فقدوا الطاقة التي تستدعيها العصبيّة. فوق هذا، باتت الحزبيّة، في أزمنة تضجّ بأعمال في ضخامة الاحتلال والتحرير، تتطلّب هويّات أخرى تفرّق الطوائف أكثر ممّا تجمع الشعوب، كما تتطلّب من الهِمم ما يتعدّى إبداء الرأي في جلسة مقهى. وهِمم سكّان الجديدة مبذولة في مكان آخر. فالأفراد الذين هم موضع افتخارهم إنّما ينتمون إلى صنف لا يسعى إلى البطولة ولا يغريه تقديم الشهداء: إنّهم المؤرّخ ألبرت حوراني والطبيب مايكل دبغي والموسيقار وليد غلميّة ومن يندرجون في الخانة هذه. وحين يُترك للمحامي مالك راشد، رئيس نادي مرجعيون، أن يتباهى ببلدته، يذكّرنا بأنّ آخر أُمّيّ فيها «دفنّاه» عام 1932، وأنّها كانت سبّاقة في إنشاء شبكة للصرف الصحّيّ وفي الإنارة بالكهرباء حيث تولّى مهاجروها تزويدها بالمولّدات. بين انفصال واتّصال ويسهب البروفيسور سيسيل حوراني في وصف علامات الزمن، زمنه وزمـــن بلدته. ذاك أنّ أهل الجديدة الذين لم تستهوهم «سياسات التطرّف»، ركّزوا دوماً ومبكراً على التجارة والتعليم والهجرة إلى أميركا وكندا والبرازيل والخلــــيج، وهي ما وفّر المال الذي عُمّرت به بيوتهم الجميلة. فمن عائلة واحدة، هي ليست من أكبر أُسَر البلدة، يبلغ عدد المهاجرين 15 ألفاً. وأهل الجديدة، بالتالي، كانوا سبّاقين في إرساء تقليد تجاريّ وسط بيئة من المزارعين، حضّهم على ذلك أنّهم، منذ نشأة لبنان الكبير في 1920، شكّلوا مدار المنطقة الشّاميّة الفلسطينيّة ومحورها. فهم أقرب إلى فلسطين منهم إلى لبنان: جنوباً يرتبطون بالقدس، ومن باقي الجهات يتّصلون بمدن الداخل السوريّ. أمّا مَن أراد التوجّه من عكّا إلى الشّام فكان عليه المرور بمرجعيون والالتفاف حول جبل الشيخ. آنذاك كانت بيروت بعيدة وغريبة كما لو أنّها تدور في فلك آخر. صحيح أنّ نشأة إسرائيل في 1948 قطعتهم، كما قطعت سائر الجنوبيّين، عن فلسطين، ثمّ أتت وحدة 1958 ومن بعدها هزيمة 1967 تعقّدان علاقتهم بالداخل السوريّ، إلّا أنّ هذا الانقطاع وثّق الصلة بالعاصمة اللبنانيّة كما بالهجرة، فلم يبقَ من ذاك الماضي إلّا الشبه بين لهجتهم ولهجة سكّان الجليل. وهم، كما لو أنّهم يكافحون النسيان أو يعتدّون بقوّة الذاكرة، يذكّرون بأنّ سهل الحولة، المنطقة الزراعيّة الأغنى في فلسطين، ظلّ حتى 1923 جزءاً من لبنان الكبير الحديث الولادة. وفي السهل المذكور امتلك بعض المرجعيونيّين وبعض الجنوبيّين أراضي زراعيّة حملتهم على توقيع عريضة تطالب بعدم ضمّ الحولة إلى فلسطين الانتدابيّة، لكنّ القرار كان قد اتُّخذ ونُفّذ من دون أن يُدفع للملّاكين الجنوبيّين أيّ تعويض. وفي 1948 كُرّس الوضع الجديد هذا وتبخّرت أراضٍ وأملاك فات «حزب الله»، على ما يبدو، أن يُدرجها في مطالبه. كتب لا بنادق بيد أنّ العلاقة بالسياسة أعقد قليلاً من رفض العنف أو كره الترتيبات الدوليّة. فتقليديّاً كان النائب الأرثوذكسيّ عن قضاء مرجعيون – حاصبيا واحداً من أبناء الجديدة. لكنّ الذين مثّلوها ومثّلوا الأرثوذكس في سنوات ما قبل الحرب، كأسعد بيّوض ورائف سمارة، إنّما نمّوا عن تواضع في التعبير وانخفاض في النبرة. لقد كان أهمّ ما يفعلونه استرضاء كامل الأسعد، زعيم المنطقة ورئيس اللائحة، وانتزاع موافقته على اصطحاب واحد منهم على اللائحة. وهذا الدور القليل الزعاميّة لا يكفي لإقناع المرجعيونيّين بفضائل السياسة، ولا يغري طامحاً منهم بها، إذ يسع التجارة أو العلم أو المهنة تلبية طموحه على نحو أفضل وأشدّ احتراماً لذات تمرّست بفرديّتها. وبالفعل لا يبدو أهل الجديدة في حاجة إلى سياسة كهذه. ففضلاً عن أنّ العائلات التي كانت ترشّح أفراداً منها للانتخابات، كبيّوض وسمارة، تقلّصت كقوى سياسيّة، إلا أن ابن مرجعيون الذي لا يصفّق لزعيم، لا يحتاج زعيماً يعلّمه أو يوظّفه أو يشقّ له طريقاً. أمّا الأحزاب في حلّتها الجديدة، فلم تُحسن بدورها كسر عزوفهم المديد عنها. فعندما خرج الإسرائيليّون في 2000، لم تتقدّم منهم تلك الأحزاب بأبهى صورها. لقد استنكف «حزب الله» عن دخول الجديدة بعد التحرير مراعاةً لمسيحيّتها، مكلّفاً الحزب السوريّ القوميّ النيابة عنه. وفعلاً أنشأ القوميّون مقرّاً لهم لا يزال علم الزوبعة يرفرف فوقه، إلّا أنّ السكّان لا يجدون فيه أكثر من ممثّليّة غريبة لـ «حزب الله». وزحفت حركة أمل أيضاً إلى الجديدة جاعلة من بيت أنطوان لحد مركزاً لها. واليوم تحيط بالبلدة صور الحركة والحزب وإشاراتهما ورموزهما التي تهيمن على طرقات المنطقة كلها وعلى مفارقها. وهذه تجارب كنّا رأينا مثلها ذات مرّة، كما قد يقول أهل البلدة. فوفق أبي سمرا، سبق أن تمدّدت المقاومة الفلسطينيّة ومكاتبها إلى جديدة مرجعيون عبر شبّانها من السنّة الذين يشكّلون ما بين 10 و15 في المئة من سكّانها. فبعد أن أنشأ المسلّحون «فتح لاند» في قرى العرقوب السنّيّة غير البعيدة، بعد توقيع اتّفاق القاهرة في 1969، حظيت الجديدة بحصّتها من المكاتب والسلاح قبل أن يقيم مسؤول حركة فتح، يحيى رباح، في بيتٍ مختارٍ من بيوتها. وينقل رئيس البلديّة آمال حوراني حادثة دالّة يتناقلها السكّان عن تلك الحقبة: فقد قيل إنّ المسلّحين الفلسطينيّين طالبوا أهل البلدة، لدى قدومهم إليها، بتسليمهم مئة بندقيّة، فردّ الأهالي بأنّهم لا يملكون بنادق لكنّهم يستطيعون تزويدهم، بدلاً منها، بعشرة آلاف كتاب. بعد ذلك استأنفت الأمور سوءها في أشكال أخرى. ففي عهد الوصاية السوريّة المديد انتُزع من الجديدة تمثيل الأرثوذكس، وإن من غير أسف، وعُهد به إلى السوريّ القوميّ أسعد حردان، ابن راشيّا الفخّار. وحردان الذي صار رئيس حزبه، لا يشبه أهل الجديدة المرتابين بالحزبيّة، كما أنّه يغري الكثيرين بتقديم الطعون: فثمّة من يقول إنّه لا يمثّل الأرثوذكس، لا في الجديدة ولا في راشيّا الفخّار نفسها، بدلالة الفشل الذي حصدته اللائحة البلديّة التي رعاها في بلدته. وثمّة بين أصحاب الحميّة الأرثوذكسيّة من يذهب أبعد، مذكّراً بأنّ حردان كاثوليكيّ المذهب تحوّل إلى مذهبهم لأنّ الوصاية السوريّة قرّرت إحلال سوريّ قوميّ في هذا المقعد المقرّر للأرثوذكس. كائناً ما كان الأمر، فإنّ الأحداث كلّها وسّعت المسافة الفاصلة بين السياسة وأهل الجديدة الشاخصين إلى فضاءات أخرى. وهي مسافة لم يقصّرها الحضور الشكليّ للدولة اللبنانيّة. صحيح أنّ أهل الجديدة، لا يريدون، ما خلا توفير الأمن، الكثير من الدولة. إلّا أنّ القليل الذي قد يريدونه لا يملكون وسائل البلوغ إليه. فـ«أهل المحيط يتمثّلون، من خلال أحزابهم وزعمائهم، بقوّة لا تُقارَن بها قوّتنا. مع هذا، فحين لا تتحقّق مطالبهم ينزلون إلى الشارع ويقطعون الطريق ويحرقون الدواليب. وهذا ما لا نفعله، مكتفين بآليّات المطالبة الرسميّة كرفع العرائض وتقديم الشكاوى، ممّا لا ينتج شيء عنه». واللافت، كما قال كثيرون هناك، أنّ الدولة اللبنانيّة كانت حاضرة خلال الاحتلال أكثر ممّا بعد التحرير. فآنذاك كانت المحكمة والشرطة والجباية تعمل في شكل جيّد، وهو ما لم يعد يُعتدّ به اليوم كثيراً. عائلات وقرية رحبانيّة هكذا تراهم، في هذه الغضون، يكتفون من الشأن العامّ ببلديّتهم وعائلاتهم الطامحة إلى تمثيل دور جديد في مسرح القرية الرحبانيّ. فأرثوذكس الجديدة رأّسوا بروتستانتيّاً على بلديّتهم، والسنّة رفعوا في ساحة البلدة لافتات ترحيب بانتخاب المفتي الجديد عبداللطيف دريان، لافتاتٍ توحي بأنّها تحظى بقبول الجميع. وإذ يعمل المخفر والمحاكم بطريقة توحي ظاهراً بأنّ الأمور في غاية العاديّة، ينهض التمثيل البلديّ على توافق العائلات المتوافقة أكثر ممّا يجب. ذاك أنّ المجلس البلديّ الذي يمنع تعليق أيّة لافتة حزبيّة تفادياً للخلاف، ائتلاف يقف على رأسه آمال حوراني الذي التقيناه مصحوباً ببعض أعضاء فريقه المتجانس. ويبدو أنّ حوراني، وهو رجل أعمال قدّم لبلدته خدمات لم يُرد مقابلاً لها، استُدعي من مهجره كي يدير شؤون بلدة أرادت تكريمه. والحال أنّ الأمور لم تكن على هذا النحو من قبل. فقد درجت عائلات الجديدة على أن تتنافس في الانتخابات البلديّة، إلّا أنّها حين تتحدّث اليوم عن ذاك التنافس تقدّمه في رواية لا تجمع الجدّ بالمزاح فحسب، بل أيضاً تجمع التاريخ بالميثولوجيا. هكذا، يقول أهل الجديدة إنّ انقسامهم كان دائراً بين العائلات التي ترقى وفادتها من حوران، خصوصاً من بلدة عزرا، إلى مطالع القرن السابع عشر، والعائلات «البلديّة» التي أقامت قبلها في الجديدة. وحين تأخذهم الرغبة في مزيد من الشرح، يضيفون أنّ كنيستهم كانت قديماً ذات بابين، واحد للبلديّين وآخر لأهل حوران ممّن شجّعهم فخر الدين المعنيّ الثاني على القدوم. غير أنّهم لا يلبثون أن يضحكوا، فيما بعضهم يقهقه، على تاريخ لاعب أو لعوب. عاصمة القضاء لكنّ عدد المقيمين في جديدة مرجعيون لا يزيد في الشتاء على 800 شخص، يؤون إلى بيوتهم في الخامسة مساء. وفي ذلك شيء مصغّر من فيينا، ولو اختلفت الأسباب. ذاك أنّ سكّان عاصمة النمسا لم يكفّوا عن الانخفاض في القرن العشرين بسبب قتلاهم في حربين عالميّتين، حتّى صار التقدّم في السنّ واللون الأسود لملابس نسائهم من معالم المدينة. ويلوح، والحال هذه، كأنّ الإبقاء على الجديدة عاصمةً لقضائها جهد مقصود لا يقوى أهلها على احتماله ولا يقتنعون ببذل الجهد المطلوب لمواكبته. فهي، فضلاً عن مدارسها، لا تزال تقيم فيها سراي القضاء وثكنته العسكريّة، فضلاً عن فروع لخمسة بنوك بينها، على ما قال أحد محدّثينا، «بنك شيعيّ»، قاصداً بنك الجمّال. ومع أنّ الخيام وحاصبيّا تضمّان فروعاً لمصارف مماثلة، يبدو أنّ الجوار لا يزال يفضّل مرجعيون لتعاملاته الإداريّة والمصرفيّة. وأهل الجديدة، إلى هذا، لا يضطرّون إلى إرسال أبنائهم إلى خارجها للدراسة، فيما أهل جوارها، لا سيّما بلدة الخيام الشيعيّة، ماضون في إرسال أبنائهم إليها. وهذا بمثابة تقليد يرقى إلى عشرات السنين، على ما يقول الدكتور طوني فرهود، كان الجيران وفقاً له يتعلّمون في مدارس الجديدة. ولا يتردّد مرجعيونيّ آخر في القول إنّ أكثر طلّاب مدرسة الصراط للراهبات والمدرسة الوطنيّة هم من الشيعة، والبنات فيهما «لا يتحجّبن». إلّا أنّ من الملحوظ هناك ندرة الفنادق والمطاعم وقلّة المقاهي ومخازن البيع، وإن كانت الصيدليّات كثيرة تلبّي حاجات الفئات العمريّة المتقدّمة والمتكاثرة قياساً بباقي فئات السكّان. ويبدو أنّ الانفجار الذي تعرّض له الجنود الإسبان في القوّات الدوليّة، عام 2007، كان ضربة موجعة للحركة التجاريّة، فضاعف إقناع السكّان بأنّ المستقبل الذي يستحقّ السعي إليه مقيم «هناك» لا «هنا». وما إن طرأ مقدار من التحسّن حمل السكّان على إطلاق مهرجان سياحيّ صيفيّ، حتّى اضطرّوا إلى إلغائه في سنته الرابعة. ذاك أنّه، ووفقاً لما قاله مالك راشد، «ما من أحد يخاطر باستثمار قد يقضي عليه حادث أمنيّ هنا أو هناك». لقد نُقل مركز القضاء إلى الجديدة أواخر القرن التاسع عشر، أو وفق التأريخ المحليّ، «على أيّام كامل الأسعد الجدّ». يومذاك كانت أكثريّة المنطقة مسيحيّة، فكان هذا سبباً إضافيّاً وراء جعلها مركزاً للقضاء. أمّا التغييرات اللاحقة التي جعلت من الشيعة أكثريّة فيلمسها بعض السكّان هناك في حركة بيع الأراضي، بحيث قرّرت بلدة الخيام، مراعاةً منها لمخاوف جيرانها، التوقّف عن شراء أراضي المسيحيّين وممتلكاتهم. والفارق بين واقع الجديدة الراهن وبين موقعها كمركز للقضاء يجلوه الفارق بين الليل والنهار. فالحقيقة تظهر ليلاً، توجزها المئات القليلة من السكّان الذين يلوذون ببيوتهم في الخامسة. أمّا نهاراً، فينشأ نوع من تزوير تلك الحقيقة، إذ يرفع الموظّفون والتلامذة العدد من ثمانمئة شخص إلى قرابة أربعة آلاف يغادرونها لحالها بعد انتهاء الدوام الرسميّ.

مشاركة :