تستقل شابات كثيرات في مصر عن أهلهن، ويقررن السكن بمفردهن لأسباب مختلفة. لكنهن في الغالب يبحثن عن "الكيان" في اتجاه آخر غير الزواج، وتحدياً للمنظومة الأبوية بكل أذرعها. لكن، ماذا يحصل حين تخرج الفتاة من بيت لتجد أنه كان نموذجاً مصغراً للمجتمع بشكل عام، وأنها انتقلت من سلطة الأب إلى سلطة المدينة التي قرر رجالها أن يلعبوا دور المربي والمُصلح وولي الأمر. في منزل العائلة، يتحكم الأهل في مواعيد ذهابها وإيابها من وإلى المنزل، وحين تستقل، يتحكم الجيران والمجتمع في ذلك. يقميها على الملابس التي تختارها، يحكم عليها من أصدقائها وزوارها في منزلها، بل ويقرر أحياناً أنها لا تستحق السكن لوحدها.عيون وعيون في مصر، الفتيات المستقلات في السكن بغالبيتهن نازحات داخلياً من محافظات أخرى، أتين إلى القاهرة باحثات عن قدر من الحرية تمنعه عنهن مدنهن الصغيرة أو قراهن. تبدأ رحلة استقلالهن بالجانب المادي، فتبحث الفتاة عن عمل، والذي غالباً لن يتوافر إلا في قطاعات محدودة. وتبقى الاختيارات بين وظيفة وأخرى تدفع لها بضع مئات من الجنيهات، لتتحكم هذه الجنيهات القليلة بحياة الشابة المستقلة في ما بعد، وعلى رأسها اختيارها مكان سكنها.ممنوع الإيجار للعازبات... تقول فتيات قررن السكن بمفردهن أن انهيار الحلم يبدأ حين تكتشف الفتاة التي تأتي من عائلة متوسطة الدخل، وتعتمد على مدخولها الشخصي للعيش، أنها مجبرة على القبول بالسكن في منطقة شعبية تختلف عمّا كانت تحلم به، أقل أمناً وتقبلاً لها، وهنا تبدأ المشكلات. فالفوارق في المرتبات بين الرجال والنساء، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر وأزمة السكن، تجعل العثور على غرفة في مكان آمن نسبياً أمراً صعباً. فضلاً عن ذلك، فإن أصحاب العقارات غالباً لا يقبلون أن يكون المُستأجر شابة بمفردها. سيسألونها عن عائلتها وما إذا كانت هاربة منها، عما إذا كانت وراءها "مصيبة" من نوع ما، هذا بالطبع بعد رمقها بنظرات تقييم أخلاقية لملابسها وطريقة كلامها. بعض هؤلاء سيشترط وجود ولي أمر أثناء كتابة العقد، ليضمن أنها لا تعمل في تجارة الجنس أو ارتكبت جريمة ما. "قد تكون الفتاة هاربة من أسرتها، وهذا يضع مسؤولية قانونية وأخلاقية عليّ"، يقول السيد حسن غريب، مالك عقار في منطقة أبراج النيل بدراوي، التابعة لحي دار السلام في القاهرة. ويضيف: "ما الذي قد يدفع فتاة إلى الانفصال عن أسرتها والخروج إلى هذه الحياة الصعبة إلا لو كانت تبتغي شيئاً لا تريده أسرتها؟ لن أكون جزءاً من هذا بأي حال. الأسرة تلجأ إلى الإبلاغ عن اختفاء ابنتها إن كانت هاربة، ولو دخلت الشرطة العقار مرة، فهذا معناه أنه أصبح مشبوهاً". في فيلم وثائقي بعنوان مغتربات أنتجته قناة ONTV المصرية مطلع عام 2017، تحكي سوزان عبدالغني عن معاناة حصولها على شقة تستأجرها: "كنت أحاول الاعتماد على نفسي، فقررت استئجار شقة بمفردي. لكن مالك العقار سألني لماذا أعيش بمفردي؟ وهل عائلتي تزورني؟ ولماذا أنا بعيدة منها؟ ثم تابع: لا أنا مش بأجّر لبنات لوحدها". انتهت القصة بأن طلبت من والدها الحضور لتوقيع عقد الإيجار وليظهر في الصورة اجتماعيًا بأنه موافق على أن تعيش بمفردها.قوانين غير مُعلنة هذا الافتراض بأن العازبات فاسدات أخلاقياً بسبب اختيار العيش منفصلات عن أسرهنّ، يُصعّب على كثيرات منهن الحصول على سكن مُناسب، ويضعهن في محل شك من المحيط، بخاصة إذا كان السكن في منطقة شعبية نسبيًا. ففي الأحياء الشعبية، غالبًا ما يعرف السكان بعضهم بعضاً. ويعتبر وجود شابة بمفردها عنصراً دخيلاً على هذا النسيج السكاني والمعتمد في تكوينه على الأسر، لا العازبين والعازبات.أقوال جاهزة شاركغردافتراض بأن العازبات فاسدات أخلاقياً يصعب الحصول على سكن مناسب ويضعهن في محل شك من المحيط شاركغرديعتبر وجود شابة بمفردها عنصراً دخيلاً على النسيج السكاني المعتمد في تكوينه على الأسر، لا العازبين والعازبات "في شتاء 2014، أردت إيجار شقة على كورنيش مصر القديمة. وكان مالك العقار طبيب نساء وتوليد. هو كبير في السن ومُنفتح - كما يوصِّف نفسه. بعد سؤالي عن عملي ودراستي وتأكده من أني شخص لائق اجتماعياً بمقاييسه، شددّ عليّ بأنه لا زوّار رجالاً يأتون إلي. وعلل موقفه بأن المستأجرة التي سبقتني كانت تستقبل عدداً من الزوّار الرجال، قبل أن يدّعي الجيران أنها عاملة في الجنس التجاري، ويطالبونه بفسخ العقد حفاظًاً على "سُمعة العمارة." يقول عم جاد الكريم، السمسار في حي غاردن سيتي: "يا أستاذة، الجيران مبيحبوش الستات تسكن لوحدها علشان وجع الدماغ. واللي بتلبس عريان ولا ترجع متأخر بيبقوا مركزين معاها لتكون ماشية مشي بطّال. أنا لو شوفت واحدة كدة مبخليهاش تقابل صاحب الشقة عشان ببقى عارف رأيه". لا شك في أن الطبقة الاجتماعية والثقافة تلعبان دوراً مهماً في قصة استقلال الشابات العربيات. فما يُعرف بالأحياء السكنية الراقية قد يُعتبر في مأمن من بعض الإشكاليات التي تواجههن في الأحياء الشعبية. يقول مصطفى مُحيي، الصحافي والباحث الإنثروبولوجي: "الأحياء السكنية لها ثقافتها، لكن هذه الثقافة مرتبطة أيضاً بالسوق العقارية. بمعنى أن هناك مناطق صالحة ثقافياً للاختراق وتقبُّل ثقافات فرعية مثل حي وسط القاهرة، والذي أصبح في آخر عقدين أكثر تقبًلًا لأن يكون السكان شباباً وشابات لا عائلات، وممكن أن تسكن مجموعة مختلطة من الجنسين في شقة واحدة، وهو ما لم يكُن مُرحَّبًا به بالقدر نفسه سابقًا، بحُكم مُتطلبات السوق والمُستأجرين. وتظل الطبقة الاجتماعية عازلاً عن بعض المضايقات، لأنها تملأ الفجوة بين سلطة الجيران أو حارس العقار وبين المُستأجرة". يؤكد هذه الفرضية محمد سمير، مالك عقار في حي المعادي: "اللي يهمني هو الإيجار. بس لو أدامي عيلة وبنت لوحدها، طبعاً هختار أأجر للعيلة. في المعادي، الجيران مش بتركز مع بعض إلا لو في شيء فعلاً غريب، وساعتها هيتصلوا بيا يقولولي حل المشكلة. وأنا مش فاضي للكلام ده".حارس العقار... سُلطة وابتزاز في محل سكنك الجديد ليس مُلاك العقار وحدهم مَن يترقبّك. فالجيران، وصاحب محل البقالة، والقهوجي، والفاكهاني جميعهم يتابعون تحركاتك بفضول واستغراب. أو إن استأجرتِ في مكان راقِ له حارس عقار، فسيطلب منك هذا الحارس مبلغاً مالياً في كل حين حتى لا يُضيق الخناق على زوارِك - إن سمح لك هو بذلك. فالشابات في سنك يعشن مع أسرهن، فلماذا أنتِ من دون أسرة؟ ستكتشفين أن أربع عيون هي لأبيكِ وأمكِ، حلت محلها عشرات العيون المُترقبة والمُتنمرة أحيانًا. تقول م.ب، شابة مستقلة: "مرة البواب يطلع مع زوارك لحد باب الشقة حتى لو كان بتاع الدليفري ويتأكد إنهم نزلوا. وممكن يرمي لك كلمتين لو راجعة بالليل متأخر. ولو مديتيلوش فلوس كل شوية ممكن يطلع عليكي سُمعة وحشة أو حتى يقول لصاحبة العمارة يمشيكي خالص". وتستطرد: "البواب كان متحرش ولما صديته، بلغ صاحبة الشقة إني بجيب رجالة وهي اتصلت بيا تشتمني وتقولي ياإما أقعد ومحدش يزورني خالص، ولا حتى ستات، ياإما أمشي. ولما مشيت مديتنيش التأمين بتاعي". سُلطة أبوية ممتدة تكتشفين أيضًا مع مرور الوقت وباختلاف التجربة أن السلطة الأبوية التي غادرتِ وتركتها في منزل العائلة، لم تغادرك. بل أحاطت بكِ وبحياتك بصورة أكبر مما كانت عليه. وأن رقابة العائلة هي مجرد نموذج لرقابة من نوع آخر، يشترك فيها النظام الاجتماعي وترعاها مؤسسات الدولة. تقول يارا سلام، باحثة نسوية ومدافعة عن حقوق النساء: "بناءً على ملاحظاتي الشخصية، تُمارس الرقابة المجتمعية على الأشخاص بأجناسهم المختلفة. لكنها تكون أكثر عنفًا مع النساء بالذات لو كان خروجهن من منزل الأسرة دفعهن إلى الانفصال الكامل عنها. فينحصر الدور الحمائي للأسرة، ويحل محلها دور رقابي يُمارسه الجميع على الشابة بمجرد أنها تظهر في محل سكنها الجديد بمفردها". أما دور الدولة في هذه القصة الطويلة فهو أمني رقابي. فإن كانت الشابة خرجت من منزل عائلتها إثر تعرضها لعنف أسري، فيُمكن العائلة الإبلاغ عنها كمختفية أو مختطفة لاستعادتها مرة أخرى. وهو دور تقوم به الشرطة بأريحية، حيث لا توجد نصوص تشريعية تُجرّم العنف الأسري، وتعتبر الشابات في هذه الحال مجرد ملكية للأسرة. ويشمل ذلك التضييق الأمني على الشابات اللواتي يعشن بمفردهن، كالتحريّات المُبالغ فيها والتحفز لأي بلاغ من الجيران، حتى أن في بعض الحالات قُبض على شابات ولُفّقت إليهن تهم مثل ممارسة الدعارة، وفق شهادة عم جاد. الأمر صعب، وما يزيد من صعوبته التداخل بين العوامل التي سبق ذكرها. ومع ذلك، لم يتوقف خروج الشابات من منازل عائلاتهن، وهنّ بذلك يفتحن باباً جديداً أمام أجيال لاحقة من الشابات العربيات اللواتي يفرضن أنماط حياة مختلفة عن تلك المُقررة لهن سلفاً.اقرأ أيضاًفريدة أبو عوف: أول مصرية عابرة جنسياً تحصل على إعفاء من التجنيدميراث المرأة المسيحية على الشريعة الإسلامية: "للذكر مثل نصيب الأنثيين"حكايات قاصرات هربن من العنف الأسري ليكتشفن الاستغلال الجنسي غدير أحمد - ناشطة نسوية مصرية، وباحثة متخصصة في دراسات المرأة والنوع الاجتماعي. التعليقات
مشاركة :