ملحمة جلجامش وثقافة الأسطورةإن الحاجة باتت ماسّةً لتحويل هذه الملحمة من افتخارها النخبوي والدراسات حولها، إلى مادةٍ قابلةٍ للتداخل مع الثقافة الاجتماعية والمجتمعية وأن تكون في محورٍ مهمٍّ من معرفة أن لكل عصرٍ خواصه وطرقه الحياتية.العرب علي لفته سعيد [نُشر في 2017/10/03، العدد: 10770، ص(14)] منذ أن تم اكتشاف ملحمة جلجامش لم تهدأ الأفكار ولا المقالات ولا الدراسات وحتى الترجمات من الخوض في معتركها، باعتبارها من الملاحم الكبيرة والعريقة التي تُعطي ملامحَ للحياة السائدة في تلك العصور التي ترتبط بالأسطورة، ولهذا كانت أولى علامات الزمن الأسطوري هي هذه الملحمة التي أخذت في الاتّساع من ناحية النقاشات والمؤتمرات وكذلك المقالات والدراسات، حتى بات الأمر في توسّعٍ أفقيٍّ في السنوات الأخيرة، من خلال استغلالها في الرسائل والأطروحات الجامعية أو من خلال تأليف الكتب الجديدة التي تحاول الغوص في أعماقها والبحث عن المكنون فيها من تأويلاتٍ وقصديات وإشعاراتٍ وحتى بلاغة. ولكن هذه الملحمة ظلّت في حدودها الدراساتية إن صحت التسمية مثلما في حدودها الأدبية.. بمعنى أن المواطن لا يعرف من الملحمة إلّا عنوانها أو اسم جلجامش وما يليه أنكيدو والقليل يعرف خمبابا وغابة الأرز، وربما لا أحد يعرف سيدوري صاحبة الحانة.. لأن الكثير من الناس لم يطلع على الملحمة بصفتها التدوينية ولا يعرف عدد ألواحها، لكون الدراسات التي اهتمّت بهذا الجانب كانت تركّز على ما يستخلصه الدارس أو الباحث، وما فهمه وما أريد منه وعنه التوصّل إليه. فهذه الملحمة منذ أن تمّ اكتشاف أوّل لوحٍ طيني من ألواحها الاثني عشر في عام 1853 في موقع أثري في نينوى العراقية، وقد احتاج الأمر إلى سنواتٍ لترجمتها من اللغة الأكادية إلى اللغة الإنكليزية ومن ثم اللّغات الأخرى ومنها العربية. منذ تلك الترجمة حتى الآن كتبت حولها العديد من الدراسات بكلّ لغات العالم، مثلما أقيمت مؤتمرات حولها كما حصل في ألمانيا قبل أشهر بهدف معرفة سرّ خلود هذه الملحمة والخوض في تفاصيل تأثيرها على الشعوب، ولكنها أي هذه المؤتمرات لم تخرج من كونها استحصال آراء للمفكّرين والساعين للكتابة عنها، دون التفكير في أهمية أن تكون هذه الملحمة متداولةً بين الناس وتخترق المسكوت عنه بين ثقافة الشعوب وخاصة في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية منها التي تعد الأسطورة جزءاً من الخرافة.. وعلى الرغم من استغلال الملحمة في الكتابات الأدبية كالقصة والرواية والشعر لكونها منطقةً وبوابةً وعتبةً تأويليةً لمحاولة أسطرة الواقع المعيش، وتحويل الفكرة إلى لحظة ارتباطٍ بين الفعل الحالي للمجتمع وما أنتجته تلك الملحمة من أدواتٍ فكريةٍ وفلسفيةٍ وحياتية، فإنها تبقى في حدود المتداول عنها من أن جلجامش ثلثاه إله والثلث الباقي بشر. وقد نرى أن الملحمة لم تزل تُعطي أكلها سواء بفاعليّتها وشخوصها وأشعارها باعتبارها نصّاً غير تقليديٍّ أو بما تمنحه لأيّ باحثٍ أو مؤرّخٍ أو حتى ناقدٍ من قدرةٍ على إعادة اكتشاف الجديد بحسب العصر الذي ينتمي إليه.. وهو يعني امتلاك هذه الملحمة لسرّ خلودها وأن تأويلاتها واكتشافاتها لن تنتهي وأن الجهود ستستمر إلى عقودٍ أخرى. ولكن هذه الجهود لم تخرج من دائرة تأكيد ما سبق إلى كشف ما هو جديد نقديا أو ما كان مخفياً من الترجمات العديدة، وما أغفله المترجمون الأوائل كما حصل مع ترجمة طه باقر أو أن الكتاب الجديد يريد إثبات أحقيّة مكان على حساب مكانٍ آخر كما جاء عند بعضهم بأن جلجامش والملحمة حدثت في الفرات الأوسط وأنها ليست قصة سومرية بل هي أقرب إلى البابلية.. أو مناقشة ما جاء فيها من شعرٍ دون أن تقترب من أهميتها الاجتماعية وتقريبها إلى الذائقة الشعبية العامة وإخراجها من كونها ملحمةً معروفةً في غلافها العام، إلى ملحمةٍ يمكن الدخول في لبّها ومعرفتها وحفظها وتأويل ما جاء فيها اجتماعياً.. بمعنى الوصول إلى مرحلةٍ يكون فيها المتلقّون سواء منهم النخبة أو الطلبة أو الناس يعرفونها كما يعرفون قصصا أخرى في التاريخ كقصة يوسف أو قصة نبيّ الله إبراهيم وحتى قصّة الخضر وآدم وما يمكن أن تشكّل الكثير من الأحداث التاريخية على أنها أسطوريةٌ أو تحمل روحاً ميتافيزيقية لا تندرج في الواقع الجمعي كوعيٍ حقيقيٍّ، بقدر ما تندرج فيها لكونها أسطورةً حملتها الأفعال التاريخية لتبقى خالدةً في الذاكرة. إن الحاجة باتت ماسّةً لتحويل هذه الملحمة من افتخارها النخبوي والدراسات حولها، إلى مادةٍ قابلةٍ للتداخل مع الثقافة الاجتماعية والمجتمعية وأن تكون في محورٍ مهمٍّ من معرفة أن لكل عصرٍ خواصه وطرقه الحياتية، بما يمكن أن يكون لعصرٍ آخر أسطورة أو يحمل ميتافيزيقيته التي كانت في وقتها هي الملـمح الأساس للتصرّف الحياتي أو السلوك الاجتماعي أو حتى القوة في السلطة. كاتب عراقيعلي لفته سعيد
مشاركة :