تساءلت السيدة المدمنة على المسلسلات التلفزيونية، قبل أيام عن أين اختفت تلك الأعمال التلفزيونية الكبيرة التي كانت اعتادت الاقتباس عن النتاجات الأدبية ما كان يعطي الشاشات الصغيرة معنى ورونقاً. والحقيقة أن هذا السؤال يعيدنا إلى سنوات سبقت حين انطلق نشاط مدهش في مجال نقل الروايات الكبرى إلى مسلسلات متلفزة ومن بين ذلك رواية «ملدريد بيرس» للأميركي جيمس كين. تلك الرواية التي عادت يومها إلى الحياة من جديد من خلال مسلسل من ست حلقات أنتجته وعرضته أوائل هذا العام 2011 شركة «اتش بي او» من إخراج مميّز للسينمائي تود هاينز ومن بطولة كيت وينسلت وإيفان ريتشل وود. ولقد بقي يومها هذا المسلسل حديث المشاهدين، ما أعاد إلى الذاكرة اقتباساً سينمائياً سابقاً للرواية ذاتها، ولكن أيضاً علاقة أدب جيمس م. كين بالسينما في شكل عام. > فكين يحتل عادة مكانة متقدمة بين أبرز كتّاب أدب الرواية البوليسية في الولايات المتحدة عند أواسط القرن العشرين، كذلك يحتل مكانة مرموقة بين الكتّاب الذين اجتذبهم المال المربح كتّاباً للسيناريو خلال عصر هوليوودي ذهبي، إلى جانب زملاء كبار له من طينة ويليام فوكنر ورايموند شندلر وداشيل هاميت وصولاً إلى برتولد بريخت خلال منفاه الأميركي، وشيروود اندرسون. ومع هذا وعلى رغم أن كين خصّ الفن السينمائي بما لا يقل عن ثلاثة أفلام «بوليسية» الطابع، فإنه أبداً لم يحب العمل في هوليوود، ناهيك بأنه من الصعب أن ننظر إلى أعماله بوصفها أعمالاً تسير على هدي قوانين النوع البوليسي. كان كين بالأحرى كاتباً اجتماعياً استخدم الحبكات البوليسية، لإيصال أفكاره. ومن هنا لم تكن مصادفة أن يجتذب نصّه الروائي الأكثر شهرة «ساعي البريد يدق الباب دائماً مرتين» ما لا يقلّ عن ثلاثة من مبدعي السينما في أوروبا وأميركا، وفي ازمان مختلفة ليحوّلوه أفلاماً سينمائية اجتماعية ناجحة، كذلك لم تكن مصادفة أن يكون جان رينوار، شاعر السينما الفرنسية من نصح صديقه - المبتدئ في ذلك الحين - لوكينو فيسكونتي بأن يجعل من تلك الرواية بدايته السينمائية، فحقق اقتباساً عنها فيلمه «وسواس» خلال الربع الأول من أربعينات القرن العشرين بعدما كان الفرنسي، الملتزم، بيار شينال حقّق فيلماً عنها. وبعد ذلك بسنوات يأتي المخرج المشاكس بوب ريفلسون ليحقق فيلماً جديداً أميركياً هذه المرة ومن تمثيل جاك نيكلسون وجيسيكا لانغ عن هذه الرواية. إن اجتذاب هذه الرواية لهذا النمط من المخرجين له أكثر من دلالة. وكذلك الحال بالنسبة إلى اختيار مايكل كورتس الذي اشتهر بعدد لا بأس به من الأفلام المميزة، ومنها الفيلم الذي أضحى مع مرور الزمن، أسطورياً «كازابلانكا»، رواية كين «ملدريد بيرس» التي نحن في صددها هنا - ليحولها فيلماً بات من الكلاسيكيات. ويندرج طبعاً في هذا الإطار ذاته تحويل بيلي وايلدر رواية ثالثة لكين إلى فيلم حمل بدوره عنوان الرواية ذاته «تعويض مزدوج»... ويقودنا هذا كله، طبعاً إلى التساؤل عما في أعمال كين في شكل عام من جاذبية إضافية اجتذبت ذلك النمط الأرقى من مبدعي السينما... > في الحقيقة إن الإجابة عن هذا السؤال يمكن أن تأتي من خلال إمعان هذا الكاتب في ربط مواضيعه «البوليسية» بالواقع والإطار الاجتماعيين للزمن والمكان اللذين تدور فيهما أحداث الرواية. ذلك أن كين وعى ذاته المبدعة والراصدة في الوقت ذاته لما يدور حوله في المجتمع والبيئة الأميركيين، خلال تلك المرحلة التي كشفت فيها الأوضاع الاقتصادية في الولايات المتحدة هشاشة «الحلم الأميركي» خلال ثلاثينات القرن العشرين حين حلّت الكارثة الاقتصادية رامية ملايين الأميركيين في وهدة الجوع ومُنزلة طبقات بأسرها إلى الحضيض. طبعاً لم يكن كين الوحيد بين الكتّاب الأميركيين الذي تعامل في أدبه مع ذلك الواقع. لكنه كان واحداً من قلة غاصت عميقاً في التأثير السلوكي والسيكولوجي لذلك الحدث المريع في تاريخ أمة بنت واقعها وتصوّرها وعلاقاتها اليومية العائلية والفردية على ذلك الحلم، فإذا بكل شيء ينهار ما إن انقلب الحلم كابوساً. وفي «ملدريد بيرس» عرف كين كيف يصور ذلك التأثر انطلاقاً من أصغر خلية في المجتمع وصولاً إلى تعميم مضمّر... بل قد نقول أيضاً انطلاقاً من الصراع الداخلي بين الفرد وذاته. وطبعاً هذا الفرد هو هنا السيدة ملدريد بيرس ذاتها التي تكاد حكايتها تكون حكاية الحلم الأميركي في ظهوره ثم تألقه، وصولاً إلى انهياره، إنما من دون أن يزعم الكاتب أن هذا البعد «الأيديولوجي» كان التعبير عنه غايته من كتابة هذه الرواية في عام1941، أي تحديداً بعدما كانت الكارثة الاقتصادية/ الاجتماعية قد ولت بفضل سياسة خلاقة حققها الرئيس روزفلت. والحال أن كين لم يشأ الوصول في «تأريخه» إلى نقطة الأمل واستعادة الحلم بفضل روزفلت، فهو لم يكن مؤرخاً بل كان مبدعاً همّه تصوير شخصياته في علاقة حياتهم وما يحدث لهم مع بيئتهم. وهذا ما نجح فيه. > إذاً، تدور حول شخصية ملدريد بيرس. غير أننا إذا تحرينا الأمور في شكل أعمق فسنجد أمامنا شخصية أساسية في الرواية لا تقل أهمية عن الأولى وإن كانت أقل حضوراً منها بكثير. ونعني هنا شخصية فيدا بيرس الابنة المراهقة لملدريد التي تتبقى لها بعد الموت المؤسي لابنتها الأخرى راي. وما حبكة الرواية سوى الصراع الخفي أولاً، والمحتدم بالتدريج بعد ذلك، بين الأم والابنة... وهو صراع سيخلقه الفراغ العائلي وغياب الأب ووحدة الأم التي إذ يتركها الطلاق وحيدة من دون معين حقيقي تجد لزاماً عليها بعد الانهيار، أن تعيد بناء حياتها من جديد وانطلاقاً مما يشبه الصفر. وفي الوقت الذي تبدأ أحداث الرواية وشخصياتها والعلاقة بين هذه الشخصيات بالتبلور يكون ذلك البناء العصامي لا يزال ممكناً حيث أن الحلم الأميركي بأقنوميه: العصامية المبدعة والنجاح السهل، لم يكن قد انهار بعد امام هجمة الواقع الاقتصادي. وهكذا بمساعدة الأصدقاء تتمكن ملدريد من بدء سلوك درب النجاح خالقة مشروعها الخاص الذي يكبر ويكبر حتى تصبح السيدة الطموح ملكة الفطيرة غير المنازعة، إذ تتفنن في صنعها وتبيعها ولا سيما في مطعم أول تفتتحه وتلحقه بمطاعم أخرى قبل أن تخوض في بيع الخمور، إثر رفع الحظر الحكومي عنها... وهي بعد ذلك تمعن في تطوير مشروعها ودائماً بدعم من الأصدقاء الذين يبرز من بينهم في حياتها الآن، زوجها السابق بيرت بيرس من ناحية، ومن ناحية أخرى مونتي بيراغون، الشاب الثري الذي سيصبح بعد حين عشيقها، ووالي شريكها السابق في العمل الذي سيبقى مخلصاً لها ومحباً... إزاء هذه الصحبة كان في إمكان ملدريد أن تمضي بحياتها من دون عداوات حقيقية... ولكن ابنتها تكون لها دائماً بالمرصاد، حتى وإن كنا سنلاحظ في المقابل كم أن ملدريد ستجابه تمرد ابنتها بودّ وتفهّم وحب. والواقع أن هذه المعادلة كان يمكن أن تسلك طريقاً عادياً لتصل إلى غاية منطقية لولا أن المراهقة تقع في شباك الفتى الثريّ عشيق أمها مونتي، ما يعقد الأمور ويقلب حياة ملدريد ونجاحها رأساً على عقب... ومن الواضح هنا أن الغيرة والتنافس بين الابنة والأم هو ما دفع الأولى إلى الارتباط بمونتي... في علاقة لن تنتهي إلا بمأساة، إذ إن فيدا ستقدم ذات لحظة على قتل مونتي... أما الأم فإنها التي تتحمل وزر ما حدث في وقت يبدأ فيه مشروعها، أي حلمها الأميركي، بالضمور حتى يختفي تاركاً إياها وحيدة فقيرة عجوزاً أضاعت كل شيء. > لقد حققت الرواية، على سوداويتها، حين صدرت، نجاحاً كبيراً زاد من حجمه تحقيق مايكل كورتيس فيلمه المقتبس عنها والذي نال يومها ست جوائز اوسكار من بينها اوسكار افضل فيلم لعام 1945. ومن ثم كان حدثاً أدبياً- تلفزيونيا أن تعود الرواية إلى الحياة بعد ذلك بعقود، عبر ذلك الاقتباس التلفزيوني الذي تحدثنا عنه أعلاه. > ولد كين في آنابوليس في ولاية ميريلاند الأميركية عام 1892 ورحل عام 1977 وهو عرف صحافياً ثم كاتباً روائياً ومبدعاً في القصة القصيرة. وذلك إضافة إلى عمله لفترة في هوليوود كاتب للسيناريو. وعلى رغم الطابع الاجتماعي والإنساني لرواياته، فإن تاريخ الرواية البوليسية يصنّفه واحداً من مبدعي الأدب المفرط في قسوته. ومن أبرز أعمال كين، إلى ما ذكرنا، «سيرينادا» و «المعهد» و «زوجة الساحر» و «الفراشة».
مشاركة :