«أنا سيد الرواية. وأنا كذلك أعظم مؤلف لروايات الجريمة في تاريخ الإنسانية الحية. أنا بالنسبة الى رواية الجريمة، في شكل خاص، ما كانه تولستوي بالنسبة الى الرواية الروسية، وما كانه بيتهوفن بالنسبة الى الموسيقى». قائل هذا الكلام ليس كاتباً معتوهاً مغتراً بنفسه يلقي العبارات على عواهنها. بل إنه ليس من ذلك الصنف الذي يمكن لمحدثه أن يساجله كثيراً في ما يقوله، حتى ولو بدا هذا الذي يقوله مفتقراً الى المنطق كما الحالة هنا. هو كاتب يعترف له كثر بأنه سيد حقيقي من سادة القصص البوليسية وحكايات الجرائم، ناهيك بأن كثراً يرون فيه أعظم كاتب تحدث عن مدينته لوس أنجيلس وعن استشراء الجرائم فيها وعن حياة تحت الأرض الخاصة بمدينة «الملائكة» هذه. هو جيمس إيلروي الذي مع أنه تجاوز الستين من عمره منذ حين، لا يزال يعتبر الى اليوم ابن الرواية البوليسية الأميركية المدلل. لكن هذا لا يعود فقط لكتاباته وأعماله الناجحة والمنتشرة والتي تترجم الى عشرات اللغات فور نشر أصلها الأميركي، بل لسبب قد لا تبدو علاقته بهذا كله واضحة للوهلة الأولى: بالتحديد لأنه يكاد يكون من كتّاب الأدب البوليسي وروايات الجرائم النادرين في العالم الذين لأدبهم كل هذا الارتباط بذواتهم، بحيث أن عددًا كبيرًا من رواياته يبدو مستقى مباشرة من تجاربه الحياتية، كما سوف نرى بعد سطور. ومن هنا، مثلاً، حين أصدر جيمس إيلروي عام 1996 كتابه «أماكني المظلمة» احتار قراؤه كيف ينظرون الى هذا الكتاب: فهل هو نوع من المذكرات الشخصية؟ أم هو رواية تحقيق بوليسي بالمعنى الكلاسيكي للكلمة؟ أم هو نوع من التكريم لأم الكاتب التي كانت قد قضت قتيلة فاعل مجهول قبل ذلك بنحو أربعين عاماً حين كان الكاتب لا يزال في العاشرة من عمره؟ > في الحقيقة أن «أماكني المظلمة» كان كل ذلك في الوقت نفسه. كان الكتاب الذي ظلّت فكرة كتابته تعتمل في ذهن المؤلف منذ صارت كتابة الرواية حرفته ومجال تفكيره. ويمكن أن نذكر هنا أن إيلروي قام بتجربة أولى في هذا السياق، حين كتب روايته الكبرى «الداليا السوداء» التي سيعود بريان دي بالما ليحولها فيلماً كبيراً من أفلام الجريمة الهوليوودية. ففي تلك الرواية التي تعتبر عادة جزءاً من «رباعية لوس أنجيلس» يمحور إيلروي الأحداث من حول جريمة حقيقية حدثت في هوليوود عام 1947 ووقعت ضحيتها الممثلة الناشئة إليزابيت شورت التي وجدت جثة ملقاة إلى جانب الطريق من دون أن ينكشف الفاعل على الإطلاق. في ذلك الحين لم يكن جيمس قد ولد بعد لكن الجريمة شغلت هوليوود طوال سنوات قبل أن يرخى عليها ستار الصمت حتى بُعثت ذكراها من جديد عام 1958، وكان جيمس في العاشرة من عمره، حين وقعت جريمة جديدة مشابهة وعُثر على جثة أخرى مرماة بالطريقة ذاتها إلى جانب الطريق. طبعاً لم يربط أحد بين الجريمتين، ولا حتى سيربط بينهما جيمس حين كتب عن الأولى في «الداليا السوداء» وعن الثانية في «أماكني المظلمة» لكن كلاً منهما ذكّرته بالأخرى وبالتحديد لأن الجثة الثانية كانت جثة أمه جنيفا إيلروي - المعروفة بجين -. وهنا مرة أخرى لم ينكشف الفاعل على رغم الجهود التي بذلها رجال الشرطة. > مهما يكن من أمر، فإن الكاتب جيمس إيلروي في الكتاب الذي نحن في صدده هنا، سيخبرنا أنه إذا كانت الشرطة قد عجزت عن العثور على قاتل جنيفا، فما هذا إلا لأن ثلاثة جرائم أخرى من النمط ذاته حدثت في الفترة ذاتها التي قتلت فيها أمه، وفي المرات الثلاث كانت القتيلات أكثر أهمية من ربة العائلة تلك التي لم يأبه أحد في نهاية المطاف بأمرها فأغلق ملفها... بل إن الملف اختفى من دوائر البوليس من دون أن يعرف أحد أين ذهب ولماذا. كل ما في الأمر أن الابن الذي بات كاتباً مرموقاً في تلك الأثناء وأضحى لديه من المال ما يكفي للتحرك، استأجر ذات يوم تحرياً خاصاً كان في ماضي أيامه ضابطاً في جهاز الشرطة الذي حقّق في مقتل الأم، وكلّفه بإعادة التحقيق من جديد دافعاً له أجره. ولئن لم تكن النتيجة الجنائية باهرة، فإن النتيجة الأدبية كانت أكثر من رائعة، في رأي الكثير من النقاد. وتحديداً لأن الكتاب بقدر ما أتى نصاً ذاتياً يعبر في صفحات عديدة منه عن حزن مقيم لدى الكاتب وشجن للمصير البائس الذي كان من نصيب تلك المرأة التي أنجبته وشاء لها القاتل المجهول - والذي سيبقى مجهولاً إلى الأبد -، أن تحرم ابنها الطفل باكراً من حنانها، أتى كذلك نصاً أدبياً كتبه إيلروي بلغة ذكية وجزلة وهو مدرك أنه إنما يفعل هنا ما لم يفعله أي كاتب بوليسي من قبله: يكتب بلغة الذات، يمزج عواطفه الشخصية بعواطف الشخصيات، ويخوض مع التحري الكلّي الحضور في الكتاب، حوارات مسهبة ومهمة حول المصير الإنساني ومفهوم الإجرام وتراتبية التحقيقات التي لا تهتم بالضحايا إلا حين يكون لها شأن ما. والحقيقة أنه لا يمكن أن يفوتنا في هذا السياق تحديداً تذكّر تلك الصفحات الرائعة التي كان قد سبق لإيلروي نفسه أن مررها في رواية «الداليا السوداء» وتحديداً على لسان بطل الرواية التحرّي الذي من الواضح أنه في تلك الرواية كان نوعاً من التمهيد لشخصيته هو نفسه - أي شخصية الكاتب إيلروي، صاحب العلاقة المباشرة بالأحداث في «أماكني المظلمة» -، ولتلك التدخلات التي سوف ترد في هذا الكتاب الأخير وقد بدا واضحاً مدى ارتباطها بالتدخلات الواردة من طريق الراوي في الرواية. ومن هنا، بالطبع، ما يراه كثر من قرابة مباشرة بين الكتابين تعكس القرابة التي تلمّسها الكاتب بين الضحية الأولى، الممثلة الناشئة، والضحية الثانية، أمه نفسها. > خلاصة القول هنا هي أن جيمس إيلروي ما كتب «الداليا السوداء» إلا كنوع من التمهيد لكتابة «أماكني المظلمة» أو أنه، وهو الذي ظل عاجزاً طوال عقود عن أن يدنو مباشرة من فاجعة فقدانه أمه بتلك الطريقة الوحشية، كان يعتقد أول الأمر أن كتابته «الداليا السوداء» سوف تغنيه عن ذلك، غير أنه سرعان ما وجد أن ثمة الكثير من النقاط المظللة في كتاب نُظر إليه كنوع من التخييل وأن حق أمه عليه لم يستوف ومن هنا، ولرغبته في الإمعان في اللجوء إلى لغة الذات، ولكيلا يكون الخلط ظالماً بين أمه التي كان قد اعتاد على تبجيلها وبين الممثلة الناشئة التي قدمها أشبه بأن تكون فتاة هوى، آثر أن يعود إلى حكاية أمه محققاً متحرّياً حولها وحول تلك الظروف الغامضة التي أحاطت بمقتلها. بل لعل في وسعنا أن نقول إنه شاء من ذلك الكتاب «الخاصّ جداً» - وفق قوله لاحقاً -، أن يكون نوعاً من الترياق لعلاقته المعقّدة مع ذكرى أمه. فهل تراه شفاه حقاً مما ألمّ به طوال عقود وعقود؟ هو لم يُجب أبداً عن هذا السؤال، لكنه قال دائماً أنه بقي على رغم كل شيء مصرّاً على عدم قراءة الصحف وعدم مشاهدة التلفزيون. بل على عدم قراءة أي شيء على الإطلاق «كل ما أفعله هو أنني أبقى جالساً وحدي في غرفة المعيشة في بيتي. لا أفعل شيئاً سوى أنني أتكلم مع نساء» وهنا إذ يُسأل إيلروي عن هوية هاته النساء يجيب بكل بساطة أنهن «نساء متخيّلات يخترع وجودهنّ ليتحدث إليهنّ» مؤكداً أنه إنما يستلهم منهنّ أفكاره والحكايات التي يكتبها «إذ تروح كل واحدة منهنّ راوية له ما يحدث معها أو ما كانت أخريات قد روينَه لها «وأنا أكتفي بجمع تلك الحكايات لأجعلها بعد ذلك جزءاً من رواياتي». فهل أمه واحدة من تلك النساء؟ وهل كانت هي من ألهمته تفاصيل كتابه «أماكني المظلمة»؟ يجيب: «أبداً... إنه الكتاب الوحيد الذي كتبته بصيغة واقعية انطلاقاً مما عايشته واعتمل في ذهني وحياتي، ليختمر طوال عقود من السنين. إنه أشبه بأن يكون، بعد كل شيء، سيرتي الذاتية ممتزجة بسيرة أمي التي لم أعرفها أبداً كما يجب».
مشاركة :