مليار جائع في العالم

  • 10/5/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

د. نيللي كمال الأميرتشهد الساحة الدولية جهوداً منظمة ومتتالية سواء بعقد القمم والمؤتمرات أو إعداد تقارير بتوصيات للحل، أو إعلان تبني سياسات لمواجهة الأزمات الإنسانية الناتجة عن ظروف طبيعية أو تلك التي تحدث نتيجة لسلوك بشري أو التي تنتج عن ظروف طبيعية وبشرية معاً كظاهرة الجوع التي توصف حاليا بالمتفشية بين حوالي مليار شخص على مستوى العالم.هناك جهود دولية متزايدة تسلط الضوء على خطورة الجوع في العالم ومنها تقرير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة والصادر قبل أيام بعنوان «حالة الغذاء والتغذية في العالم» والذي يعد الأول من نوعه. من هذه الجهود أيضا ما سبق وتبنته المنظمة الأممية وأعضاؤها في 2015 وعرف بـ«أهداف التنمية المستدامة». فالقضاء على الجوع حل ثاني الأهداف السبعة عشر المعلنة، يسبقه فقط القضاء على الفقر، في خطة طموحة للقضاء على ظاهرة الجوع في العالم قبل عام 2030 وتحقيق الهدف ليس مستحيلا خاصة إذا علمنا أن هناك أكثر مما يكفي من الأغذية المنتجة في العالم لإطعام الجميع، وفقا لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة.لكن لا تزال تلك الجهود عاجزة عن إنهاء الجوع -حتى الآن- ويبدو أن هذا التحدي له سرعة أكبر منها. وفقاً للتقرير المذكور انضم 38 مليون شخص العام الماضي فقط لقائمة من يعانون الجوع في العالم ليصبح التقدير الإجمالي 815 مليون شخص في 2016 وهو ما يمثل 11% من إجمالي سكان الكوكب. ومما يزيد الأمر تعقيدا أن ارتبط نشوب النزاع ارتباطا طرديا بازدياد حالات الجوع التي تحولت لمجاعات، كما في دولة جنوب السودان التي عانى 5 ملايين شخص فيها من مجاعة خلال 2017 بفعل زيادة أسعار الغذاء والنقص الحاد في المتاح، وارتفاع تكاليف النقل.كما وقد تتحول أوضاع الأمن الغذائي المتردية إلى موجات من المجاعات في بعض مناطق النزاع الأخرى، كما في نيجيريا والصومال واليمن. وتكفي الإشارة إلى أن 113 مليون شخص هم عدد اللاجئين والمهاجرين متضرري النزاع عالميا في 2017، ويعاني هؤلاء من انعدام فرص الأمن الغذائي.والواقع أن انتشار الجوع المرتبط بالنزاع ليس جديدا، بل إن الجوع كان يستخدم كسلاح لإدارة النزاع في أحيان كثيرة، وليس أبلغ من حصار لينينجراد الألماني للروس أثناء الحرب العالمية الثانية الذي أودى بحياة مليون شخص. لا تخلو النزاعات الحديثة من أمثلة مشابهة، فالحرب الكونغولية الثانية الممتدة من عام 1998 وحتى عام 2004 راح ضحيتها حوالي 4 ملايين شخص منهم من كان يعاني الجوع ومنهم من كان يعاني الجوع والمرض معا. وبالمثل كانت مواجهة الجوع ضمن مناهج المنظمة الأممية لمواجهة النزاع. ومن ذلك «برنامج الأمم المتحدة النفط مقابل الغذاء»، الذي اعتمده مجلس الأمن في عام 1996 ليسمح بتصدير كميات من النفط الخام مقابل استيراد مواد غذائية أساسية وأدوية تحت مراقبة الأمم المتحدة.في الوقت ذاته، وإن كان النزاع أحد أهم الأسباب المؤدية للجوع في العالم فارتفاع أسعار الغذاء والتي جعلت الدول غير قادرة على استيفاء احتياجاتها الغذائية من خلال الاستيراد أحد الأسباب أيضا، وهو ما أدى لاشتعال «الصراع على الأرض» الزراعية المنتجة للغذاء وكان ضمن أهم مسببات النزاع في إفريقيا مثلا، وهو ما يزيد مشكلة الجوع تعقيدا.وبالتالي فإن تلك التقديرات تشكل تحذيرا بأن التوصل إلى عالم خال من الجوع وسوء التغذية بحلول عام 2030 تحدٍ كبير وأن تحقيق ذلك الهدف سيتطلب التزامات وجهودا تعزز توفير الأغذية والحصول عليها بشكل كافٍ.وعلى ضوء تلك الحقائق المخيفة، يبدو أن الحل الأمثل لتلك الظاهرة الآخذة في النمو يحتاج إلى التنسيق بين عدة قطاعات. فالجوع يبدو كترس في آلة كبيرة تدور فيها تروس، كسوء حالة المرافق الصحية، وتراجع مستويات التعليم، ووجود موجات من الجفاف والفيضانات نتيجة لتغير المناخ، وصعوبة الوصول للمياه، والعادات الغذائية غير السليمة.وتشير الخبرات الدولية إلى أن التكاملية في التعامل مع الجوع واعتباره أزمة إنسانية وليس مجرد أزمة غذاء تؤدي إلى نتائج إيجابية. من أمثلة ذلك ما يحمله تقرير الأمم المتحدة من أخبار سارة بشأن قصة نجاح في إرساء حالة من الاستقرار ما بعد انتهاء النزاع في أوغندا. فبعد نزاع امتد لعقدين تحسن قطاع الأمن الغذائي في البلاد حتى انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر بأكثر من 10% بين عامي 2005 و2012. وكان أساس نجاح التجربة الأوغندية أن الحكومة حددت الزراعة كأولوية لعملية النهوض وتم توفير الدعم لاستعادة سبل كسب العيش للمواطنين متضرري الصراع سابقا، فوفرت البذور والأدوات كما تبنت برامج للنقد والأغذية مقابل العمل.تعبر كارثة الجوع في العالم عن واحدة من حالات الاختلال في توزيع الموارد وليس نقصاً فيها، وقد يكمن الحل الأمثل في التنسيق الجيد بين المستويات الوطنية من خلال حكومات تتبنى سياسات فاعلة لانتشال الفئات المتضررة وبين المستويين الإقليمي والدولي، حيث يتيح حلولاً قد تفيد، كما يتيح موارد من خلال أدوات كالمساعدات الدولية. على أن يرتبط ذلك بتحديد الفئات والشرائح العمرية الأولى بالرعاية كالأمهات والأطفال في مواجهة سوء التغذية. وهنا، لا بد أن يشتمل التغيير المطلوب على جانب قيمي قد يتمثل في العودة للتمسك بقيم الاستهلاك الرشيد والتكافل، ويمكن أن تلعب منظمات المجتمع المدني دورا هاما بالتوسع في مبادرات مجتمعية على غرار مبادرات «بنوك الطعام».أما على مستوى السياسات فلا بد من إعطاء الأولوية لقطاع الزراعة ثم ربطه بقطاع التصنيع الغذائي، ونشر مهارات حفظ الأغذية على مستويات توفر فرصا لإنشاء مشروعات بتمويل صغير أو حتى متناهي الصغر لإنشاء مشروعات حفظ الخضروات، فيقل الفاقد ويزداد المتاح خاصة بين أفراد المجتمعات المهمشة والبعيدة عن المدن الكبرى.بمعنى آخر، فالتكامل في تحليل أسباب مشكلة الجوع أحد مناهج حلها. فالمياه والطاقة وعادات التغذية وإنتاجية الفدان ومستوى التصنيع الغذائي وحتى شبكة المواصلات التي تربط بين أماكن الزراعة وأماكن التسويق هي جميعها أمور لا يمكن إغفالها لو أردنا إصلاحا حقيقيا للخلل الذي تعبر عنه مأساة الجوع، الذي جاء وفقا لهرم الاحتياجات الإنسانية لصاحبه ماسلو في القاعدة كأساس للاحتياجات الإنسانية.نحتاج أيضا لمناهج غير تقليدية لمحاربة الجوع تتطور فيها أدوار الدولة والفرد. فكما يرى ساكس في كتابه «نهاية الفقر» فإن على الاقتصاديين تعلم مهارة التشخيص المتنوع لقضايا التنمية، مع النظر لكل حالة تبعا لخصوصية كل دولة، والابتكار بدلا من الارتكاز دائما على الحلول «سابقة التجهيز» المطروحة من المنظمات الدولية. أما فيما يخص الفرد فيرى النرويجي الفائز بـ«نوبل»، هامسون في روايته «الجوع»، من خلال بطل روايته الذي يعاني الجوع والتشرد أن الإيمان يمكن أن يجعل الجائع يرى ضوءا بعيدا في نهاية النفق المظلم، وبالتالي فإننا بحاجة للتأكيد على قيم العمل وإرساء التعاون للوصول ليس فقط لزيادة الإنتاج الغذائي، ولكن أيضا للوصول لحالة التعايش السلمي فيقل الصراع وهو أحد أهم مفجرات كارثة الجوع على سطح الأرض. nkamalm@yahoo.com

مشاركة :