هل يتفوق فيلم "بليد رانر 2049" على جزئه الأول؟

  • 10/6/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

هاريسون فورد، النجم ذو المسيرة الزاخرة بالأدوار التي لا تُنسى، في فيلم "بليد رانر 2049"، وهو الجزء الثاني من "بليد رانر". وترى الناقدة كارين جيمس أن فورد يقدم أحد أفضل أدواره في هذا العمل، الذي يتحدث عن مستقبل بائس، وينتمي لنوعٍ من الأفلام كان رائجا في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ويمزج في أحداثه بين الجريمة والدراما المثيرة. قبل 35 عاماً، أُنْتِجَ فيلم "بليد رانر" الذي تدور أحداثه في إطار مستقبلي وتحديداً في عام 2019. واليوم، بعد كل هذه الفترة، من الصعب أن يبدو العالم الذي قدمه العمل - الذي بات الآن فيلماً كلاسيكياً - غريباً علينا بأي شكل من الأشكال. فأجهزة الإنسان الآلي الشبيهة بالبشر ظهرت على الشاشات بشكلٍ غير متوقع في كل مكان، بدءاً من فيلم "آيه إل: ذكاء اصطناعي"، ذاك العمل الذي بُخِسَ حقه للمخرج ستيفن سبيلبرغ، وصولاً إلى مسلسل "وست وورلد". كما صارت الهواتف المزودة بكاميرات فيديو شائعة الاستخدام. من جهة أخرى، بدت الأمطار المستمرة التي تضمنتها مشاهد ذلك الفيلم تكهناً بالتغير المناخي، الذي أدى إلى أن تجتاح كوكبنا أعاصير قوية على نحوٍ مأساوي. ولذا يظهر السؤال: كيف يمكن أن يُنتج فيلم جديد عن المستقبل تتخطى أحداثه ما يجري على أرض الواقع في عام 2017؟ لكن الجزء الثاني من هذا العمل، والذي أُعِدَ بدهاء وبراعة وأخرجه الفرنسي دينيس فيلنوف باسم "بليد رانر 2049"، سعى جاهداً إلى تجنب هذه المشكلة الشائكة، من خلال مظهره الحافل بالضجيج الذي يشتت في الوقت نفسه انتباه مشاهديه، ويخفي مع ذلك موضوعاً لا تكف السينما عن تناوله، يتعلق بالإنسانية بوجه عام. يمكنك أيضا قراءة: كوميديا سوداء وإسقاطات غير مقصودة في "موت ستالين" وتدور أحداث الفيلم، في نسخة مستقبلية من مدينةٍ ما يسودها البؤس والتعاسة. اللافت أن العمل لا يركز على التكنولوجيا، التي أدت إلى حدوث الفوضى التي نرى آثارها عبر أحداثه، ونتعرف عليها من خلال خلفية درامية تتسرب إلينا شيئاً فشيئاً، وتشير إلى حدوث مجاعة وعطلٍ شاملٍ للطاقة ينجم عنه تدميرٌ كارثيٌ للبيانات. وبدلاً من ذلك، يستغل الفيلم موضوعاً مُفعماً بالغموض تم طرحه في الجزء الأول، ويجعل منه محوراً له، وهو عبارة عن سؤال مفاده: هل الذكريات هي ما تجعلنا بشراً؟ وإذا لم يكن ذلك صحيحاً فما الذي يجعلنا كذلك؟. بطبيعة الحال، ثمة لغزٌ محير، فهذا الجزء الجديد يأخذ من الجزء الأول فرضية وجود "ضابط تحري بداخل هذه المدينة المستقبلية البائسة"، بل ويُسند دور الضابط الذي يُطلق عليه اسم "كيه" - وعلى نحوٍ أكثر حكمة أيضاً - للممثل رايان غوسلينغ. وفي الجزء الجديد، تختفي "الروبوتات" التي ظهرت في الجزء الأول، وكانت تتحلى بكل المواصفات الممكنة فيما عدا اتسامها بطابعٍ بشريٍ. يمكنك أيضا قراءة: هل يقدم الفيلم الثالث من سلسلة "كينغزمان" أي جديد؟ وبدلاً من هذه "الروبوتات" التي كانت محظورةً قانوناً في الجزء الأول، تظهر نماذج آلية جديدة منها أكثر تطوراً وأناقة، بل ويُسبغ عليها طابعٌ قانونيٌ أيضاً. ويُناط "كيه" بالمهمة ذاتها، التي كُلِف بها "الضابط ريتشارد ديكارد" - الذي جسد شخصيته هاريسون فورد - في الجزء الأول، وهي تعقب الروبوتات عتيقة الطراز والقضاء عليها، تلك المهمة المنوطة برجال شرطة يُطلق على الواحد منهم اسم "بليد رانر". وعلى مدار ساعتين و43 دقيقة، تبدو أحداث "بليد رانر 2049" وكأنها مُقسمة إلى ثلاثة أجزاء. ويتميز الجانب الأكبر من العمل بفاعلية وجاذبية على نحوٍ يتسم بالحذر، ويبدو شديد الخشية بشكلٍ مفرط على الإرث الذي خلفه الجزء الأول، إلى حدٍ يمنعه من ابتكار أي شيء جديد يصطبغ بالجرأة. ويُعنى القسم الأول من الفيلم ببناء العالم الخيالي الذي تدور فيه الأحداث. هنا نرى أن "كيه" يُخلِف خلال مطاردته لـ"روبوت" دماراً أكبر من ذلك الذي لحق بمدينة لوس أنجليس في الجزء الأول. وخلال الملاحقة يصادف شخصيةً تحمل اسم "سابِبر مورتون" ويجسدها الممثل دايف باتسيتا، وهو صاحب مزرعة للديدان، فبحسب العمل تشكل الديدان طعاماً في عام 2049. ويُستهل الفيلم بمشهد حركةٍ ذي طابع انفجاري، نرى فيه شخصاً يطير عبر أحد الجدران. مصدر الصورةGetty ImagesImage caption الممثل هاريسون فورد يقوم بدور البطولة في الفيلم وتبدو مشاهد الحركة هذه وسيلةً لجذب انتباه المشاهدين. لكن عملية بناء العالم الذي تدور فيه الأحداث تبدو مُركزةً بشكلٍ أكبر على حياة "كيه" في منزله. فهناك تنتظره حبيبته التي تُدعى جوي (جسدت دورها أنا دي أرماس)، وهي مزيجٌ من نظاميّ المساعدة الشخصية الإليكترونية الذكية؛ سيري وأليكسا من جهة ومن شخصية سامنثا التي قدمتها الممثلة سكارليت جوهانسون في فيلم "هير" من جهة أخرى. وكم كان سيصبح رائعاً لو علمنا السبب، في أن أحد سلوكياتها الروتينية يتمثل في أن تغدو ربة بيت بحذاءٍ ذي كعب وحليِّ من اللآلئ، على ذاك النمط الذي كان سائداً في خمسينيات القرن العشرين. لكننا لا نعرف السبب أبداً. وتكشف هذه المشاهد بنجاح عن مدى الوحدة التي يعاني منها "كيه". كما أنها تبدو بمثابة أصداء وتذكار بفيلم "هير"، بدلاً من أن تصبح مجرد إيماءة إلى هذا العمل. ومن بين الإشارات المتعمدة التي حفل بها "بليد رانر 2049"، إشارةٌ غير متوقعة إلى "بينوكيو"، تلك الشخصية الروائية الخيالية التي ابتُكِرت في القرن قبل الماضي. يمكنك أيضا قراءة: نجاح أحدث أفلام "الرجل العنكبوت" يرفع أسهم سوني وأخيراً تبدأ حبكة الفيلم في الظهور، خلال أحداث ما يمكن اعتباره القسم الثاني منه، عندما يجد "كيه" شيئاً ما مدفوناً تحت شجرة في مزرعة الديدان. (بالمناسبة ما من شيء في هذا الفيلم الجاد يشجع مشاهديه على السخرية من فكرة وجود مزرعة ديدان). وبعد هذا الاكتشاف يُرسل "كيه" - بأوامر من رئيسته روبن رايت التي تظهر دائماً في هيئة قائد عابس صارم - ليخوض رحلة بحث مضنية، بهدف التعرف على معنى ذاك الشيء الذي عثر عليه. العودة إلى المستقبل وخلال هذه الرحلة، يشرع "كيه" في التشكك في ماضيه وهويته هو نفسه، مُتنقلاً بين ذكريات مزعجة وغير مفهومة بالكامل تعود إلى فترة طفولته. وهنا تتجلى قدرة غوسلينغ على التمثيل المعبر والناعم والذكي، دون كثير صياح أو جعجعة، وهو ما يجعله قادراً على التعبير عن فكرةٍ ما بنظرة خاطفة من عينيه. ويتلاءم أسلوب تمثيله المكثف والهادئ في الوقت نفسه، بشدة مع العالم الذي يقدمه الفيلم، والذي يفتقر إلى المشاعر الإنسانية الظاهرة على الملأ. ولعل قدرة غوسلينغ منذ بداية الفيلم على أن يبث الحرارة والشعور بالعطف والشفقة في ثنايا عملٍ تسوده أجواء فاترة عاطفياً بشدة، تكشف الكثير عن نقاط قوته كممثل. وينجح المخرج فيلنوف في أن يتنقل خلال فيلمه بدقة وإحكام بين مشاهد الحركة، وبين تلك التي تبرز الموضوع الذي يعالجه، كما يغذي مشاهده طوال الوقت بالمعلومات بكياسة وسخاء، وهو ما يجعل ذلك الفيلم مفهوماً حتى لمن لم يشاهدوا الجزء الأول منه. كما يضم كل مشهد الكثير من اللمسات الصغيرة، التي تقدم الفيلم للمشاهدين كمادة جاهزة لكي ينخرطوا في مناقشته وتحليله. فحبيبة "كيه" تناديه باسم "جَو"، في إشارة ضمنية ربما، إلى "جوزيف كيه" وهو اسم بطل رواية "المحاكمة" للكاتب الشهير الراحل فرانس كافكا. أما السيارة الطائرة الخاصة بهذا الضابط، فهي نسخة أكثر تطوراً من تلك المركبات الطائرة التي ظهرت في الجزء الأول، ولكنها هذه المرة مزودةٌ بطائرة بدون طيار قابعة على سطحها، وقادرة على الانفصال عنها. لكن ليس بوسع الجزء الثاني الهروب من حقيقة أن الشكل الذي خرج به الجزء الأول - الذي أخرجه ريدلي سكوت - مثّل مكمن قوته ومصدر تأثيره الدائم. فاللون الأزرق الذي تصطبغ به المشاهد - من درجة تُعرف باسم "أزرق منتصف الليل" - يبدو بمثابة طبقة نسيج تكسو لوس أنجليس ماطرة الأجواء، التي تظهر في الفيلم أشبه بطوكيو، وذلك بفعل أضواء النيون الموجودة في كل مكان فيها. مصدر الصورةGetty ImagesImage caption شخصية جوي في هذا الفيلم جسدتها الممثلة "أنا دي أرماس" كما يكسو هذا النسيج الضوئي الديكورات الداخلية ذات اللون الأصفر الذهبي، ما يخلق هالةً مُؤَرِقة لعالمٍ مفعم بالحقد. وفي بعض مشاهده، يستخدم الجزء الثاني ذاك اللون الأصفر الذهبي الذي ظهر في الجزء الأول، بدرجات متنوعة منه. وبشكلٍ عام، يخلق المصور روجر ديكينز والمسؤول العام عن الصورة في "بليد رانر 2049" عالماً قاتماً وكئيباً. ويصوِّر مخرجه الكثير من لقطات هذا الجزء في المجر. ورغم أن العمل قد لا يتضمن الكثير للغاية من اللقطات التي أُعِدت بواسطة الكمبيوتر، فإنه يبدو كذلك. على أي حال، لا تبدو هذه طريقة سيئة لتصوير مستقبل فاسد بائس. لكن الشكل العام للجزء الثاني وتصميمه لا يبدوان مماثلين على الإطلاق في جاذبيتهما لنظيريهما في الجزء الأول الرائع والغني بالقيمة الفنية. وبرغم أن عثرات الفيلم محدودةٌ للغاية في الواقع، فإن ذلك لا ينفي وجودها. فـ"جاريد ليتو"، الذي يستخدم عدسات لاصقة بيضاء اللون كالحليب خلال تجسيده لشخصية عبقري أعمى ورجل أعمال شديد الثراء يتمكن من حل أزمة الغذاء، يظهر بشكلٍ عديم الأثر على الشاشة، ويبدو تكراراً لـ"فكرة نمطية مصطنعة" معتادة في مثل هذه المواقف. أما الموسيقى التصويرية التي وضعها بنجامين وولفيش وهانز تسيمر، فقد يراها البعض مُتطفلة على مشاهد العمل، بل إنها قد تتخمها بشكل خاص، عندما تُضاف إلى تلك المشاهد التي تتضمن عثور "كيه" على اكتشافٍ مهمٍ. لكن هناك العديد من المشاهد القوية، التي تكشف عن جِدة وأفكار طازجة كان بوسع الفيلم الاستفادة منها بشكلٍ أكبر. فرحلة بحث "كيه" تقوده إلى مخزن مظلم عتيق الطراز، يقبع فيه أطفال أيتام يعكفون على إصلاح دوائر إليكترونية تُستخدم في الحاسبات الآلية وغيرها من الأجهزة، وهو مشهدٌ يمزج بين أجواء روايات تشارلز ديكنز وبين أسوأ المخاوف التي قد تراود المرء حول الكيفية التي يمكن أن يكون هاتفه المحمول قد صُنِّع في ظلها. يمكنك أيضا قراءة: أفلام لم تكن بحاجة لجزء ثان كما يزور الرجل شابةً معسولة اللسان، تعيش معزولةً في خيمة بلاستيكية كبيرة، نظراً لإصابتها بخللٍ في جهاز المناعة. وتتلخص وظيفة هذه الشابة - التي تنشأ صلةٌ شعورية بينها وبين "كيه" - في "تصنيع" ذكريات لزرعها في الأنظمة الخاصة بتشغيل "الروبوتات". لكن المشكلة تتمثل في أن المرء يشعر خلال أول ساعتين من الفيلم بأن ثمة شيئاً مفقوداً. وفي نهاية المطاف، تقود رحلة البحث "كيه" إلى "ريتشارد ديكارد"، أول من اختير كـ"بليد رانر". وهنا يزلزل هاريسون فورد بتجسيده لهذه الشخصية، الدقائق الـ 45 تقريباً المتبقية من العمل، ليجعل قسمه الثالث والأخير استثنائياً. لعلنا نذكر أن الجزء الأول من الفيلم ينتهي بـ"ديكارد" فاراً برفقة حبيبته "ريتشيل"، وهي "روبوت" بدورها. ويتسق ذلك مع نهاية فيلم "فينال كّت" الذي أُنْتِج عام 2004، ويؤثره ريدلي سكوت على غيره من الأعمال الكثيرة التي حاولت البناء على فيلمه الأصلي. وعلى مدى عقود، أثارت كل هذه الأفلام تكهناتٍ بشأن ما إذا كان "ديكارد" نفسه إنساناً آلياً أم لا. ولكن نجاح فورد في أن يفعم "بليد رانر 2049" بالحياة لا تعود لأسباب تتعلق بالحنين إلى الماضي. فهو يضفي على دوره نشاطاً عاتياً وقوياً، من خلال قدرته على التعبير عن الشكوك التي يُكِنُها "ديكارد" في "كيه"، وكذلك براعته في تجسيد تكتم الشخصية التي يلعبها في الفيلم على ماضيها، وتعبيره عن رغبتها في البقاء على قيد الحياة. وفي مسيرة فورد الحافلة بالأدوار التي لا تُنسى، يمكن اعتبار دوره هنا من بين أفضلها على الإطلاق. بجانب ذلك، يشحذ فورد بحيويته الدافقة أداء غوسلينغ كذلك. وفي كل المشاهد التي دارت بين الاثنين، بدءاً بالصراع اللفظي ثم بالاشتباك بالقبضات وصولاً إلى التحول بشكل حاد في الأحداث صوب "الكشف الضخم" الذي يتضمنه العمل، يستخدم الاثنان كل ما لديهما من قدرات وجاذبية شخصية تتوافر لنجوم السينما. ولا يحدث ذلك بالطريقة المبتذلة التي يعمد إليها من يغويهم بريق الحصول على جائزة الأوسكار، ولكن كممثليْن يدركان كيف يبسطان هيمنتهما على الشاشة. وكان من حسن الطالع أن يُختار لمكان معيشة "ديكارد" أحد أفضل المواقع التي رأى صناع الفيلم أن تدور الأحداث فيها، ألا وهو كازينو عتيق لا تكف لقطاتٌ ثلاثية الأبعاد لـ"إلفيس بريسلي" و"فرانك سيناترا" عن الظهور بشكلٍ متقطع على خشبه مسرحه الذي لا يرتاده أحد. ولا يغيب هاريسون فورد أيضاً عن أكثر مشاهد الفيلم براعة وذكاء. في النهاية، يمكنك أن تفترض بعد مشاهدتك لـ"بليد رانر 2049" أنك قد وصلت إلى رأيٍ قاطع بشأن ما إذا كان ديكارد إنساناً آلياً أم لا، لكنك لن تلبث أن تتشكك أنت نفسك، في صحة ما توصلت إليه في هذا الشأن. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Culture .

مشاركة :