«ظلام» للإسرائيلي ميخائيل مائير: عتمة رام الله لا تشبه عتمة تل أبيب

  • 10/8/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

استعادت القناة الثانية في التلفزيون السويدي أخيراً عرض فيلم «ظلام» للمخرج الإسرائيلي ميخائيل مائير، وفي الاستعادة نوع من الاحتفاء بالطبع إن لم يكن خاضعاً لبرمجة متقنة تبررها بعد مرور أكثر من أربع سنوات على تحقيق الفيلم. حتى وقت قريب كان يمكن القول إن الأدلجة التي يخضع لها المجتمع الإسرائيلي بما هي منسوبة للعقيدة الصهيونية نفسها غير مؤهلة لإعادة إنتاج فن وفكر لائقين إنسانياً، وهذا ثبت فعلياً، وثبت أكثر فشل إسرائيل في إعادة تسويق نفسها ثقافياً. لكن هذا قد لا يعني أن إسرائيل مستمرة بمراكمة هذا الفشل، والدليل هو صعود نوع وكم من الأفلام السينمائية التي صارت تفهم لغة المهرجانات العالمية وتتوجه إليها، وهذا ليس أمراً منوطاً فقط بنوع رأس المال المستخدم في إنتاجها، بل إن هناك رسائل في غاية الخطورة تحملها في ثناياها وتبثها في كل الجهات، وبالطبع هذا لا يشمل نوع الأفلام التي تحاكي نفسها بلغة الوجود، أو ما هي الأسباب التي تدفع بالإسرائيليين للبقاء في أراض ليست لهم، وهي حركة تشبه أخرى في الأدب الإسرائيلي برزت في خمسينات القرن العشرين محملة بنوع من الأسئلة الوجودية ذات الطابع الإنساني. فيلم «ظلام» الذي يتخذ من حكاية شابين مُثليين، أحدهما فلسطيني (نيكولاس يعقوب) والآخر إسرائيلي (ميخائيل آروني) ليس إلا ستاراً خطيراً لتمرير هذا النوع من الرسائل، مع تعاظم دور الحركات المثلية في العالم، ودور الحركات التي تتبنى قضاياهم والدفاع عنهم. وهنا يفرد الفيلم أيضاً مساحة مناسبة لاستعراض دور الحركات الإسرائيلية التي تقوم بتبني المثليين الفلسطينيين الذين يهربون من «واقع البؤس والتكتم والقسوة» الذي يعيشونه في الأراضي الفلسطينية إلى جنة حقوق الإنسان في مدينة تل أبيب، وما تمثله في هذه العتمة التي يركز عليها المخرج مائير في حلوله البصرية، حتى أنه يمزج بين عتمتين طوال الفيلم: عتمة رام الله المنكوبة المتبلدة، وعتمة تل أبيب التي تشع بالفرح والسهر. ليس قبول الآخر مادة قابلة للنقاش بالطبع، خصوصاً أن مواقع التواصل الاجتماعي أخذت على عاتقها ليس فقط تحرير آراء كثيرة من التصلب والتحجر التي قد تتهم فيها هذه الكتابة، بل إنها صارت تفرض وتتسلط في نوع الآراء التي يمكن الكتابة بها من الآن فصاعداً، وهذا يستدعي تفكيك المادة المحمولة عن الفيلم تفكيكاً هادئاً حتى لا تتهم هذه الكلمات بأي نوع من التصلب والتحجر غير القابلين للنقاش كما قد يتصور البعض. نمر مشهراوي (نيكولاس يعقوب) فتى فلسطيني يدرس علم النفس في جامعة بيرزيت الفلسطينية، وهو شعلة في الذكاء كما يقدمه سيناريو الفيلم، ومتفوق في دراسته، وإن بالغ في هموده وأصبح يسهو كثيراً بين أفراد عائلته حين كان يلتحق بها بعد زيارات مدينة تل أبيب للتدليل على انجذابه عاطفياً للمحامي الإسرائيلي الطموح، الوسيم روي شافير (ميخائيل آلوني). وإذ تنطلق شرارة هذه «العلاقة» من إحدى حانات المُثليين في مدينة تل أبيب، لا يعود بالإمكان وقفها تحت أي سبب من الأسباب. لا الترخيص الموقت بدخول «القلعة الإسرائيلية» الحصينة قادر على فعل ذلك، ولا الشاباك الإسرائيلي (الأمن الداخلي) يمكنه فعل ذلك سواء من طريق مطاردة نمر للإيقاع به وتطويعه بابتزازه وجعله أداة للتجسس على طلاب جامعة بير زيت، أو برمي المُثليين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية بعد الانتهاء من تقديم خدماتهم للعدو، ليتكفل أهاليهم و «المتعصبين» الفلسطينيين بالقصاص منهم. وغالباً ما يتم قتلهم وتصفيتهم كما يخبرنا الفيلم، أو كما يحدث مع مصطفى الذي تضيق الأجهزة الإسرائيلية ذرعاً به، لأنه لم يعد لديه ما يقدمه لها مقابل الإبقاء عليه في مدينة تل أبيب التي تصر على تنظيف نفسها بنفسها تلقائياً من كل فلسطيني يمكنه أن يتجول فيها بحرية، وهو شعار الشاباك الإسرائيلي على أية حال. يرفض نمر مشهراوي في البداية عرض مسؤول الشاباك، ويبدي عناداً لا يتناسب مع طبيعته الهادئة والمسترسلة بالذبول، مقارنة مثلاً مع شقيقه نبيل (جميل خوري) المتشنج، والعدواني، والمتكلف في أحاديثه، وهو من يرعى مجموعة فدائية تقوم بتصيد العملاء والمُثليين على حد سواء وتخزين الأسلحة في أمكنة مهجورة يعرف الشاباك عنها كل شيء، ما يفضي إلى اعتقاله لاحقاً على أيدي جنود وحدة إسرائيلية خاصة. لكنّ رفض نمر وعناده لن يستمرا طويلاً، إذ سرعان ما يلغى ترخيصه بدخول تل أبيب للتمرن على يد بروفيسور إسرائيلي في جامعتها، ويصبح مادة دسمة لعناصر الشاباك الإسرائيلي الذين لن يتوقفوا عن مطاردته، فيما ينجح روي بتهربيه أكثر من مرة بعد مناقشات صاخبة مع والديه عن نوع «العشيق الإرهابي» الذي يحميه. نوع المونتاج المتوازي بين عائلتي نمر وروي يقود إلى التمعن بالنموذج المعلب الذي يولد في الفيلم بالتدريج، ويقصده المخرج ميخائيل مائير، وإن حظي بالتصفيق في مهرجانات عالمية كثيرة، ولقي الكثير من التعاطف في صفوف الحركات المُثلية حول العالم، إلا أن الفيلم الذي يخلق توتراً مقبولاً على مدى تسعين دقيقة يسقط في امتحان التعليب الذي قد لا يهم كثيراً المدافعين عن ذرائعه في خلق شخصيتين متناقضتين في كل شيء يدور من حولهما، وجعل الأضعف (نمر) هو الخاضع، والمأسور، الذي يجب أن يدفع ثمن كل شيء في أرضه بغض النظر عن ميوله الجنسية التي يكتشفها في سن متقدمة نسبياً كما يخبر روي، في ما يبقى هذا الأخير (روي) متعالياً في كل شيء، حتى في نوع الأحاسيس والمشاعر التي يمن بها على نمر. إصراره على تنجيته تحاكي غروره وصلفه وولعه بالهيمنة، إن افترضنا تحليل هذا النوع من العلاقات، وحتى إفشاء سره بركوب اليخت من «المارينا» أمام مسؤول الشاباك متوجهاً إلى فرنسا يحمل رغبة دفينة غير واعية بالتخلص منه أيضاً، فنحن لن نعرف أبداً ما إذا كان نمر سيصل إلى فرنسا تهريباً، وأمامه ستة أيام لبلوغ شواطئها، وقد عرف الأمن الإسرائيلي وجهته. ينتهي الفيلم بلقطتين عامة وقريبة لنمر مشهراوي على متن اليخت، لكن أحداً لم يقل إن كان سيبلغ فعلاً وجهته التي يحددها رجل المافيا رامون الذي يقدم خدمات جليلة لشركة والد روي الجندي السابق في الجيش الإسرائيلي الذي سبق له وخدم في مدينة رام الله ويعرفها شبراً شبراً كما يخبر نمر في حوار غير متكافئ بينهما.

مشاركة :