الطالباني يمكن وصفه بثعلب السياسة العراقية فهو صاحب كاريزما لم ينلها أيّ سياسي من سياسيي العراق بعد 2003.العرب [نُشر في 2017/10/08، العدد: 10775، ص(7)]من صحافي وأديب إلى رئيس جمهورية لندن - شاب نقله حلم الزعامة مبكراً من مدرسة التكية الطالبانية في كويسنجق إلى الصف الأول بين أترابه، يوم نظم بتشجيع معلمه في المدرسة الابتدائية لجنة مصغرة سرية للقراءة، كانت تلك اللجنة بمثابة التدريب على أدوار قيادية سريعة احتلها الطالباني الشاب، ولتشكل علاقة له بالشاعر الشهير محمد مهدي الجواهري وهو يقرأ قصيدته “يوم الشهيد” في أول مؤتمر لطلبة العراق، وكانت المناسبة التظاهرات ضد معاهدة بورتسموث التي عُقدت بين بغداد ولندن، والشهيد المقصود شقيق الجواهري جعفر الذي قُتل خلالها. ترأس الطالباني وفد طلبة كويسنجق إلى ذلك المؤتمر، ثم سرعان ما أصبح عضواً في الحزب الديمقراطي الكردستاني “البارتي” الذي تأسس العام 1946. ولد جلال الطالباني في قرية كلكان على سفح جبل كورست مقابل بحيرة دوكان، العام 1933، فظل هذا المكان مقراً يرتاده كلما سنحت الفرصة، وبعد قيام السلطة الكردية إثر حرب الكويت في العام 1991 أصبحت داره ثابتة هناك، يستقبل فيها ضيوفه وبعض السياسيين العراقيين الجدد من حصلوا على قطعة أرض أو داراً للاستجمام هناك. ومعلوم أن سدّ دوكان قد أنشأته السلطة الملكية في العراق ويُعدّ من أضخم السدود بعد الثرثار، إلا أن أغلب منشآت بناء القاعدة التحتية قد خُطط لها وبدأ العمل بها وافتتحت في العهد الجمهوري حتى عُدّت من منجزاته. في ظلال الملا مصطفى البارزاني دخل الطالباني كلية الحقوق في خمسينات القرن العشرين، وتركها بسبب نشاطه في الحزب الديمقراطي الكردستاني، ثم عاد إليها ليتخرج منها العام 1959. وقد فتحت ثورة 14 تموز 1958 الفرص أمام الأكراد وقيادات الثورة الكردية، ولكنها استثمرت خطأً، فما هي إلا شهور حتى عادوا ليعتصموا في الجبال بما أطلقوا عليه ثورة أيلول 1961، والغريب في الأمر أن الطالباني ابن رئيس التكية الصوفية في كويسنجق والتقدمي الذي اختلط بالشيوعيين يعود من بغداد ليقود فصيلا مسلحا في ثورة فجرها إقطاعيو الأرض أو أغواتها ضد الإصلاح الزراعي، إلا أن الحزب الديمقراطي الكردستاني حينها فسرها على أنها من أجل القضية الكردية، لكن الحقيقة أن مصطفى البارزاني وحزبه دخلا فيها كي لا يخطف الأغوات الشعبية لهم تحت شعار تحرير كردستان.الغريب في بدايات الطالباني ابن رئيس التكية الصوفية في كويسنجق والتقدمي الذي اختلط بالشيوعيين أنه عاد يوما من بغداد ليقود فصيلا مسلحا في ثورة فجرها إقطاعيو الأرض أو أغواتها ضد الإصلاح الزراعي عمل الطالباني قريباً من مصطفى البارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، وكان نشاطه الشخصي وقربه من الشخصية الكردية ووالد زوجته إبراهيم أحمد وراء تقدمه السريع، فلما انشق الحزب في العام 1964 مال الطالباني إلى الصف الآخر البعيد عن البارزاني من دون أن يعتزل، فهو شخصية براغماتية لا يحرق سفنه بسهولة حتى تأتي الفرصة المناسبة، وتنتهي الحركة الكردية بعد حرب 1974-1975 ويتخلّى الجانب الإيراني في زمن الشاه عن الثورة الكردية وفق معاهدة الجزائر، حينها يعلن الطالباني عن تشكيل حزبه وبقيادته وقد أطلق عليه عنوان حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، فصار في الساحة الكردية حزبان رئيسيان تقاسما المنطقة وظلا يتقاسمانها حتى هذه اللحظة، الديمقراطي الكردستاني في أربيل والاتحاد الكردستاني في السليمانية، وقد بان ذلك واضحاً في حرب تسعينات القرن الماضي بين الحزبين والقيادتين. يوم اعتصم الطالباني في السليمانية والبارزاني (مسعود) في أربيل، ظهر الخلاف على المستوى الديني الصوفي أيضاً وإن كان غير محسوس، لكن العارفين ببواطن الأمور يدركون ذلك ويصرّحون به، فمن المعلوم أن التكية الطالبانية هي قادرية التصوف وأن رمزها الأول هو علي بن أبي طالب، بينما البارزانية التي اختلط الاسم فيها بين أن يكون عنواناً للمكان (منطقة بارزان) في أقصى الشمال الشرقي من أربيل، أو المشيخة أو الطريقة الصوفية المتفرعة من الطريقة الكبرى النقشبندية والتي يُعد رمزها الأول هو أبوبكر الصديق، حتى أُخذ انحياز الطالباني لإيران وانحياز البارزاني لتركيا، خلال نزاعهما وحتى قُبيل الاستفتاء، فُصل على مقاس ذلك الاختلاف الصوفي.عقيدة الطالباني في السياسة متلونة فمِن رفعه السلاح في جبال كردستان العراق إلى التعاون مع الجيش الإيراني، إلى قبوله دعوة الرئيس صدام حسين وطيه صفحة الماضي معه الطالباني كان صحافياً وكاتباً محترفاً فقد انتخب العام 1959 في أول اتحاد للكتاب والأدباء العراقيين وكان برئاسة الشاعر محمد مهدي الجواهري، وكان يترأس ويشرف على تحرير معظم الصحف التي أصدرتها الحركة الكردية، خلال خمسينات وستينات القرن الماضي. لذا كانت علاقته واسعة مع مثقفي بقية العراقيين من غير الأكراد، وظل على هذه الصلة حتى رئاسته للجمهورية ووفاته في الثالث من أكتوبر 2017 عن عمر ناهز الرابعة والثمانين. يعقد الاتفاق وينقضه كان الطالباني في السياسة، على وجه الخصوص، متلوناً، يمكنه عقد اتفاق مع جهة معينة ونقضه في المساء. فمِن رفع السلاح في جبال كردستان العراق إلى التعاون مع الجيش الإيراني، حتى أنه كان يزور معسكرات الأسرى العراقيين في إيران، ويُدعم من قِبل طهران مثل الدعم الذي يُقدم للأحزاب والجماعات الإسلامية العراقية، لكنه في ما بعد قِبل الدعوة وصافح صدام حسين واتفق على طيّ صفحة الماضي تماماً وكأن شيئاً لم يكن، لكن ما أن تقررت الحماية الدولية للمنطقة الكردية من الطيران العراقي حتى عاد وأخذ يُلقي الخطابات الحماسية معتبراً كركوك قُدس الأقداس، وأن قيام الدولة الكردية حق لا بد منه، وكان محتمياً بإيران في حربه مع الحزب الديمقراطي في أربيل، حتى كاد يجتاح عقر دار مسعود البارزاني بدعم إيراني، ولم يتوقف إلا بعد أن استنجد البارزاني بالجيش العراقي فدخل سريعاً ليرد حزب الطالباني إلى حدوده في السليمانية، وعلى حدود تلك الحرب مازال النفوذ في المنطقة يتقاسمه الحزبان إلى درجة أنه من عام 1996 وحتى العام 2003 كانت الحدود بين أربيل والسليمانية تشبه إلى حد بعيد حدودا بين دولتين. حضر الطالباني مؤتمرات المعارضة العراقية كافة والتي بدأت بالانعقاد منذ ربيع 1991، وفي كل مؤتمر كان رقماً صعباً في المعادلة العراقية، حتى زاد بالحضور على غريمه مسعود البارزاني، وإذا كان الأخير تمثل بالخلق العشائري والوضوح في مواقفه، فالطالباني كان غامضاً ووصفه البعض بالمخاتل سياسياً، إذ يقول شيئا ويضمر أشياء، فهو مع الوحدة العراقية وفي موضع آخر مع الدولة الكردية، وعندما تتوفر له فرصة النصر في موقف معين يتوارى عن الأنظار مثلما فعل عند انتصاره على أربيل أو عند الحاجة له، وهذا ما عبر عنه حاكم العراق المدني الأميركي بريمر في كتابه، فقد كان الشخص الوحيد الذي يبحثون عنه هو الطالباني.جلال الطالباني صحافي وكاتب محترف انتخب العام 1959 في أول اتحاد للكتاب والأدباء العراقيين، وكان يترأس ويشرف على تحرير معظم الصحف التي تصدرها الحركة الكردية خلال خمسينات وستينات القرن الماضي. لذا كانت علاقته واسعة مع المثقفين العراقيين من غير الأكراد وظل على هذه الصلة حتى رئاسته للجمهورية ووفاته لعبة الكراسي الكردية عندما أصبح الحكم بالعراق بعد 2003 على أساس المحاصصة، كان لا بدّ من أن تكون المناصب بين الأكراد على أساس المحاصصة أيضاً، فصار موقع رئاسة الجمهورية من حصة الأكراد، وهنا برز السؤال: مَن يكون مناسباً لها مسعود البارزاني أم جلال الطالباني؟ يعتقد البعض أن البارزاني لعب لعبته ليبعد جلال إلى بغداد، ويبقى هو رئيساً للإقليم في جانبيه السليمانية وأربيل، لكن عقر دار الطالباني ظلت في الجوهر تحت قيادته، ولم تصل سلطة مسعود إليها، وبهذا ربح مركز رئاسة العراق مع الاحتفاظ بهيمنته في القسم الخاص به من كردستان العراق. غير أن الأحزاب العراقية كافة تعي جيداً أن المنصب مفصّل على قياس الطالباني، إذا كان لا بد أن يكون الرئيس كردياً، فله صلات وتأثير على الجميع. فموقع رئاسة الجمهورية كانت قوته بقوة الطالباني لا بالمركز نفسه، فمن المعلوم أن الدستور العراقي سلّم السلطة الفعلية لرئيس الوزراء، وهذا هو الخطأ الذي شعر به الجميع عندما تفرد حزب الدعوة الإسلامية به. فما كان الطالباني يختص به بشخصه لم يستطع خليفته الخروج عن النص المُقيد لرئيس الجمهورية وصلاحياته الشكلية. للطالباني علاقة وطيدة بالأدب العربي، ويبدو أن ذلك كان بتأثير شعر الجواهري الذي اقترب منه الطالباني في بغداد، خلال مؤتمر الطلبة في العام 1948 وخلال وجوده كعضو في اتحاد الكتاب والأدباء العراقيين سنة 1959 وما بعدها، فنجده يحفظ قصائد مطولة للجواهري ونجد أن الجواهري نفسه بادله تلك العلاقة، وله قصيدة فيه تُعدّ من عيون شعر الجواهري، منها قوله “شوقاً (جلالُ) كشوق العين للوسن/كشوقِ ناءٍ غريبِ الدار للوطن/شوقاً إليك وإن ألوت بنا محنٌ/ لم تدر أنا كفاءُ الضُّرِّ والمحن/يا ابن الذرى من عُقاب غير مصعدةٍ/شمُّ النسور به إلا على وهن/وحسبُ شعريّ فخراً أن يحوزَ على/راو كمثلك ندب مُلهمٍ فطن/جلالُ صنتُ عهوداً بيننا وثقتْ/ فما توثقتَ من عهدٍ بها فصُن/لا تبغني بوق حربٍ غير طاحنةٍ/ بها تزيا كذوبٌ زيّ مُطحَّن/ ولا تردني لحال لستُ صاحبها/وما تردني لحال غيرها أكن”.التكية الطالبانية قادرية التصوف، وتعد علي بن أبي طالب رمزها الأول، بينما البارزانية المتفرعة من الطريقة الكبرى النقشبندية يعد رمزها الأول أبوبكر الصديق جاء ذلك رداً على رسالة شخصية من الطالباني إلى الجواهري فكتب له سنة 1966 قطعة شعرية أو قصيدة من الشعر ليكتمل النص العام 1981، تلك الإخوانية بين الشاعر والسياسي ظلت مستمرة حتى وفاة الشاعر، وما هو معروف أن الجواهري كان بحاجة إلى غطاء رأس، لسبب طبي، على ما صرّح هو به في إحدى مقالته، فاعتمر في بداية الأمر قبعة من إحدى الجمهوريات السوفييتية سابقاً، إلا أن جلال الطالباني فاجأه بحياكة قبعة خاصة نُقش عليها اسم كردستان، وظلت على رأسه حتى وفاته، ويجهز له واحدة جديدة كلما بليت السابقة. فمن طريف ما يذكر الجواهري أنه كم حيل “كلاوات” مرت عليها ولم يثبت على رأسه غير كلاو جلال، ومعلوم أن غطاء الرأس في اللهجة العراقية يُسمى “كلاو”. صراع على تركة الطالباني نتفق أو نختلف مع جلال الطالباني والذي يمكن وصفه بثعلب السياسة العراقية، إنه صاحب كاريزما لم ينلها أيّ سياسي من سياسيي العراق بعد 2003، ليس على المستوى العراقي بل على المستوى العربي أيضاً، فكان يحظى بمنزلة بين الرؤساء العرب إلى جانب أنه براغماتي في علاقاته بالسياسيين ورجال الدين، فتجده الأقرب لمراجع الدين يحتفظ بما تعلمه من تكية والده الطالباني من خلال الظهور بمظهر المتدين مع أنه المنفتح جداً مع غير المتدينين وتجد كلا الطرفين يحسبه عليه. مضى الطالباني وقبل ذلك دب الانشقاق إلى حزبه، والبداية كانت بجماعة التغيير، ثم خروج القيادي برهم صالح بحزبه الجديد، فإن الفراغ الذي تركه في الساحة الكردية والعراقية عموماً لا يسده أحد. فمَن كان يدري أن ذلك الطالب والصحافي سيتبوأ يوماً رئاسة جمهورية العراق، وفي زمن مضطرب، قضى جزءاً منه في خلق النكات على نفسه، كي يمنع شيوع النكتة واستخدامها ضده، وبالفعل نجح في ذلك.
مشاركة :