لا يمكن القول إنه مشهد جديد أو فريد من نوعه، لكنه في وسط إسطنبول، على أطراف ساحة تقسيم، وتحديداً على تخوم تلك الغابة الخضراء اليانعة التي تتواطأ اليوم السلطات الحاكمة والرأسمال الجشع والعولمة في شكلها الأكثر وحشية، على تحويلها الى مجمعات تجارية من باطون ومعادن، يتبدى مشهداً عجيباً قد يذكر هواة حكايات الخيال العلمي، والسينما المتفرعة عنها، بمشهد مماثل الى حد ما يرد في رواية راي برادبوري - وفيلم فرانسوا تروفو المقتبس عنها - «فهرنهايت 452». إنه مشهد عجيب يقف فيه عدد لا بأس به من شبان وشابات في وقت محدد من بعد ظهر كل يوم وفي يد كل منهم كتاب يقرأ فيه بصوت مرتفع صفحات وصفحات. صحيح أن ثمة فارقاً كبيراً في الغاية من الحدث بين ما في العمل التخييلي الذي نذكره، والعمل الواقعي الذي يدور أمام أعين المارة في ذلك المكان من إسطنبول الذي شهد أعمال قمع وحشية ضد أولئك الشبان أنفسهم قبل سنوات. لكن المعنى مشترك وواحد: في الحالة الروائية هو فعل احتجاج يتضمن حفظ نصوص الكتب التي تمنعها السلطات للإبقاء عليها حية، أما في الحالة الواقعية التي تدور أمام أعيننا فهو نوع من الاحتجاج ضد الجريمة المرتكبة في حق البيئة والمدينة. وهو احتجاج يتخذ في لحظات ذروته طابعاً استفزازياً لا يمكن لقانون أن يردعه. > مهما يكن من أمر، لعل قمة الاستفزاز تتمثل في الكتب التي اختار الشبان قراءتها. فهي حتى من دون أن تكون كتباً ممنوعة، ليست من النوع الذي يرضي السلطات. ولعل في إمكاننا أن نخص بالذكر هنا ذلك الكتاب عن حياة مصطفى كمال آتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة والذي لا يزال يعتبر الى اليوم ضامن كينونتها وعلمانيتها بعد ثلاثة أرباع القرن من رحيله. وهو بالتالي وبهذه الصفة المنغّص الأول لعيش سيد تركيا الحالي الذي لا يشعر بعد أن في إمكانه التخلص منه، ولم يعد يمكنه أن يتحمل صوره منتشرة رسمياً في كل مكان. ثم ها هم الشبان الغاضبون يقفون في الساحة العامة، وبكل هدوء يقرأون سيرته على الملأ. والأدهى من هذا أن الكتاب الذي نتحدث عنه ليس سيرة رسمية من النوع الذي قد يمر به الناس ويبتسمون، بل هو عمل أدبي درامي حقيقي صدر في ثلاثة أجزاء متتالية بين العامين 1963 و1965 ليقدم عن الزعيم التركي المبجّل صورة في غاية الإنسانية ندر أن حظي بمثلها رجل سياسة في منطقتنا. ومن هنا تتبدى خطورة الكتاب ويظهر تأثيره وتعلق القراء الأتراك به... > لقد صاغ آيديمير كتابه الضخم متتبعاً جزءاً بعد جزء حياة ونضالات مصطفى كمال، إنما من دون أي مسعى منه للتوقف طويلاً عند البعد السيكولوجي الذي ترى كتب كثيرة أنه كان أساسياً في تحركه منذ البداية. بالنسبة إلى آيديمير، لا شك في أن هذا البعد أساسي لكنه ليس كل شيء، حتى وإن كان الكتاب، في جزئه الأول، يسبر مطولاً سيرة الطفل الذي كانه كمال، ليتابع بعد ذلك خطوة خطوة مساره كشاب ثم كرجل ناضج، ساعياً الى إدراك الأسباب التي جعلت منه.... رجلاً وحيداً. والحقيقة أن الأساس لدى هذا الكاتب ليس أفعال مصطفى كمال وأقواله، بل وحدته التي ما انسحب منها أبداً، تلك الوحدة - التي ينبهنا الكاتب على أية حال الى أنها لم تتحول الى تفرّد في الزمن اللاحق حين أصبح مصطفى كمال «أباً للأتراك» (أتاتورك»). بل ظلت وحدة درامية تُغرق صاحبها في التفكير ومحاولة تجاوز ذاته. وللتوصل الى تفسير هذا كله، ينكبّ آيديمير منذ البداية على تحليل الأوضاع الأخلاقية والمادية التي حكمت طفولة مصطفى كمال وشبابه. وللوصول الى هذا، صوّر الكاتب ذلك المناخ الأليم لكائن متحدّر من أوساط بائسة، أدرك هو نفسه وبصورة مبكرة، مقدار عبقريته ولا سيما حين كبر وبدأ احتكاكه بالبيئة الريفية التافهة التي كانت تهيمن على مسقط رأسه سالونيك، ثم لاحقاً اكتشافه التفاهة ذاتها لدى الأوساط العسكرية العليا التي سرعان ما لاحظ أنها تحاول خنق مساره العسكري المهني خوفاً من تفوقه. وفي هذا السياق، لافت هنا العرض الشيق والقاسي الذي يقدمه الكاتب، في الجزء الثاني من الكتاب، للصراع الذي راح يدور بين الضابط مصطفى كمال، ورئيسه الضابط الكبير الذي كان يعتبر الأقوى والأكثر شعبية في الأوساط العسكرية حينذاك، أنور باشا. والحقيقة أن هذا الصراع إذ يرسمه قلم آيديمير يبدو هنا جديراً بعمل شكسبيري مميّز. ونعرف أن الصراع بين الرجلين إنما دار من حول مسألتين سياسيتين كانتا بالغتي الحساسية حينذاك: فكرة النزعة الوحدوية الطورانية ومبدأ التحالف مع القيصر الألماني ذي الرغبات التوسعية. في هاتين المسألتين عارض مصطفى كمال رئيسه بقوة. > في خضم ذلك لم يتوقف مصطفى كمال في مسيرته التي امتلأت بالأخطار والعقبات ولا سيما خلال تلك المرحلة التي راحت فيها الإمبراطورية العثمانية تتفتت وتنفصل عنها الأقاليم. لقد واكب مصطفى كمال كل تلك الأحداث وحيداً منطوياً على داخله ولكنه فعل ذلك من دون أن يبتعد من العمل العسكري والسياسي اليومي الذي بدا واضحاً انه يكرس له كل فكره وجهوده. وعلى هذا النحو يتابعه الكاتب خلال تلك السنوات الصعبة مركزاً على التضافر بين الجانب الجوّاني في مسيرته الشخصية التي لم يكن يبدو لمن يدنو منه في ذلك الحين انه واثق حقاً الى أين سوف تقوده، والجانب البراني الذي كان من الصعوبة بمكان التنبؤ بما سوف يؤول اليه. إذاً كانت تلك سنوات اللايقين والقلق. غير أنه، وبحسب آيديمير، كان من المستحيل ملاحظة ذلك القلق لا في تصرفات مصطفى كمال ولا في أفعاله. كان يبدو من الخارج وكأنه رجل تقوده خطواته الى مصير، خاص وعام، موثوق. ولسوف تظل الحال على هذه الشاكلة حتى وصوله الى إسطنبول التي كانت خاضعة لعدة احتلالات في آن معاً في ذلك العام المفصلي 1918. ولعل الفرصة الكبرى التي أُعطيت لمصطفى كمال يومذاك كانت في هرب أنور باشا وغيره من كبار الضباط من المدينة خوفاً من تكالب الأعداء الذين أخلوا المكان لسلطان ضعيف ووزراء لا حول لهم ولا قوة يخضعون لإرادة الأعداء من دون تفكير مستسلمين للهزيمة. وهنا وجد مصطفى كمال نفسه وحيداً مع بعض أصحابه في مواجهة الأحداث، فقرر أن يمضي بهم الى الأناضول ليقود كفاحاً مسلحاً ينقذ به الأمة. > بذلك الكفاح المسلح إذاً يبدأ الجزء الثاني من الكتاب الذي يحتوي تلك الأحداث الخطيرة التي تشغل الأعوام 1919 -1922 وصولاً الى انفراط القوات المتجمعة المعادية التي سوف ينتهي بها الأمر الى الغرق خلال هروب أفرادها في مياه بحر إزمير. ولعل الصفحات الأقوى في هذا الجزء من الكتاب هي تلك التي يصور فيها المؤلف الصراع الذي خاضه مصطفى كمال، بصحبة «القوى الحية في البلاد» كاشفاً فيه عن قوة تنظيمية وعسكرية يتمتع بها، إنما مركزاً في الوقت ذاته على أن ذلك كله، وحتى الانتصارات المتتابعة التي أنقذت الأمة التركية لتفصلها لاحقاً وبصورة كلية عن الإمبراطورية العثمانية، لم تنقص من وحدته. فهو في الأحوال جميعها ظل ذلك الرجل المنطوي على ذاته والقليل الثقة بالآخرين، بل حتى الخائف على البلد والأمة وعلى ما بدأ يبنيه، إن أصابه مكروه. واللافت في أسلوب الكتاب أن هذا كله إنما يعبر عنه مصطفى كمال في مناجاته مع نفسه وفي كتابات يدونها بأكثر ما يعبر في أحاديث يجريها مع آخرين. > المهم أن الأحداث تتتالى بعد ذلك سريعاً لينشغل الجزء الثالث من الكاتب بمستتبعات الانتصار من استعادة الاستقلال وعزل السلطان ثم إلغاء الخلافة فإعلان الجمهورية وتسلم مصطفى كمال - وقد استحق هذه المرة اسمه الذي سيعرف به منذ ذلك الحين: أتاتورك، مقاليد الحكم، بل حتى دخوله الحياة العامة‘ ولكن دائماً مع تمسكه بوحدته وانطوائه كما كان في طفولته. وبهذا يعود الكتاب ليغلق هنا دائرة حياة هذا الرجل التاريخي الذي هيمن على قدر الأتراك وأعاد لهم كرامتهم، ولكن من دون أن يبدل كل ذلك المصير قيد أنملة من مزاج الطفل الذي كانه في سالونيك ذات يوم.
مشاركة :