كان الإمام "ابن المرزبان" يعيش في القرن الرابع الهجري، وكان -رضي الله عنه وأرضاه- من الصالحين، وكان رجلاً حكيماً، فلما رأى طباع الناس قد تغيّرت وساءت أخلاقهم واشرأب النفاق في نفوسهم وعمّ اللؤم في طباعهم، وانتشر الكذب بينهم، وقلَّ فيهم أهل المروءات، وانعدم منهم مَن يحفظ الأمانات، حَزِنَ لما آلت إليه أحوال العباد؛ فألف كتاباً ماتعاً وسمّاه (تفضيلُ الكلاب على كثيرٍ ممن لبسَ الثياب).. والكتاب وإن كان صغيراً في حجمه، فإنه عظيم في نفعه. وقال -رضي الله عنه- في مقدمة كتابه: (أبعد الناس سفراً مَن كان سفره لطلب أخٍ صالح)، وذلك لقلة الصالحين فيهم، ثم نقلَ قول لبيد: ذهبَ الذين يُعاش في أكنافهم ** وبقيتُ في خلفٍ كجلدِ الأجربِ وقال آخر: ذهبَ الخيرُ من كثيرٍ من الناس ** ومات الذين كانوا مِلاحا وبقي الأسمجون من كلِّ صنفٍ ** ليتَ ذا الموت منهم قد أراحا وقال آخر: ذهبَ الكرام فأصبحوا أمواتا ** ورقاً تـُطيّرهُ الرياحُ رُفاتا وبقيتُ في دهرٍ أُحاذرُ شـرَّهُ ** وأخافُ فيه من الطريقِ بيَاتا وقال آخر: ذهبَ الناسُ وانقضت دولة المجد ** فكلٌّ إلا القليلِ كلابُ مَن لمّ يكن على الناس ذئباً ** أكلتهُ في هذا الزمانِ الذئابُ ثم أوردَ قول دعبل بن عليّ الخُزاعي في نفاق الناس: لى صديق له وجهان، ظاهرهُ ** بن عمّ، وباطنهُ بن زانيةٍ عتيق يـَسرُّكَ لو رآك مُقبلاً ويسوءكَ ** غيباً، كذلك يكونُ أولادُ الطريق ونقل قول كثير عزة: أنتَ في قومٍ إذا غبت عنهم ** جعلوا كلَّ ما يُزينكَ شَينَا وإذا ما رأوك قالوا جميعاً ** أنتَ من أكرمِ الرجالِ علينا ثم نقلَ قول أبي الطاهر: حالَ عما عهِدتُ ريب الزمان ** واستحالت مَودةُ الإخوان استوى الناسُ في الخديعة والمكر ** فكلٌ لة من اللسانِ اثنان ثم أورد المؤلف بعض القصص التي تدل على وفاء الكلب وجميل صفاته، فقال نصاً: (اعلم -أعزّك الله- أن الكلبَ لمن يقتنيه أشفقُ من الوالد على ولده، والأخ الشقيق على أخيه، فهو يحرس ربَّه (صاحبه)، ويحمي حريمه حاضراً وغائباً، لا يُقصر عن ذلكَ وإن جَفوه، ولا يخذلُهم وإن خذلوه). ورُوي أن رجلاً قابلَ حكيماً فقال له: أوصني، فقال: (ازهد في الدُنيا ولا تُنازِع فيها أهلَها، وانصح لله تعالى كنصح الكلب لأهله، فإنهم يُجيعونه ويضربونه ويأبى إلا أن يحوطهم نصحاً). ورُوي أن عمر بن الخطاب وكان -رضي الله عنه- رأى رجلاً يسوقُ كلباً، فقال له: ما هذا معك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، نعمَ الصاحب، إن أعطيتهُ شكر، وإن منعتهُ صبر، فقال له عمر: استمسك به. وقال الشعبي: (خيرُ خصلةٍ في الكلب أنه لا يُنافق في محبتهِ). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (كلبٌ أمين خيرٌ من إنسانٍ خؤون)، أي: خائن. وروي أن للربيع بن بدر كلباً قد ربَّاه، فلما مات الربيع ودُفن وتفرق عن قبره الأهل والأحباب، أخذَ الكلب يضرب على قبره وينوح حتى مات. وروي أنه كان للأعمش كلب يتبعَهُ، فلما سُئل في ذلك، قال: رأيتُ صبياناً يضربونَهُ ففرقت بينَهُ وبينهم فحفظَ لي ذلك. لذلك فإن العرب قديماً كانوا يشتقون أسماءهم من أسماء الكلاب، وممن اشتهر منهم: كليب بن يربوع، ومكالب بن ربيعة، وكلاب بن ربيعة، وغيرهم. وكان أبو عبيد ينشد بيتاً من الشعر يقول فيه: يعرَجُ عنهُ جارَهُ وشقيقهُ ** ويرغبُ فيهِ كلبهُ وهو ضاربه فلما سألوه عن هذا، قال: هذا الشعر قيلَ في رجلٍ من أهل البصرة خرجَ يوماً إلى الجبانة وكان معه أخوه وجاره، فأتبعَهُ كلب له، فضربَه وطردَه وكرِهَ أن يتبعه ورماهُ بحجرٍ فأدماه، فلما صار في طريقه وثبَ عليهِ قومٌ يتتبعونه كانت لهم عندهُ طائلة، فهرب عنهُ أخوه وجاره وتركاه، ورُموا به في بئر وحَثوا عليه التراب حتى واروه، فلما انصرفوا عنه أتى الكلب إلى رأس البئر فلم يزل يعوي ويحفر بمخالبهِ في التراب حتى ظهر رأس صاحبه، وقد كان أشرف على الموت ولم يبقَ فيه إلا خشاشة نفسه، واستمر الكلب على ذلك حتى مرَّ به قومٌ أنكروا مكانه ورأوه كأنه يحفر قبراً، فقربوا منه فرأوا الرجل فاستخرجوه حياً وحملوه إلى أهله. وروى عبد الله بن محمد الكاتب أن رجلاً قدمَ إلى أحد السلاطين فمر في طريقهِ بمقبرة عليها قبة مكتوبٌ عليها هذا قبرُ الكلب فمن أحبَّ أن يعلم خبره فليمضِ إلى قرية كذا فإن فيها من يُخبره! فسأل الرجل على القرية فدلّوه عليها فقصدها وتوجّه نحوها، فلما وصل وسأل أهلها عن خبر الكلب فدلّوه على شيخ، فذهب إليه فإذا به شيخٌ قد جاوز المائة سنة، فسأله عن خبر الكلب، فقال له: كان في هذه الناحية ملكٌ عظيم الشأن وكان مشهوراً بالنُزهة والصيد والسفر، وكانَ له كلب قد ربَّاه ولا يُفارقه، فإذا كان وقت غدائهِ وعشائهِ أطعمَهُ مما يأكل، وفي يومٍ قال لبعض غلمانه: قل للطباخ يصلح لنا ثريدةَ لبن فقد اشتهيتُها، ثم خرجَ إلى الصيد، فصنع الطباخ له ثريدة عظيمة ونسي أن يغطيها بشيء، فخرج من بعض شقوق الغيطان أفعى وقد مجت في تلك الثريدة من سُمها والكلب رابضٌ يرى ذلكَ كُله، وكان عند الملك جارية خرساء قد رأت أيضاً ما صنعت الأفعى، فلما رجع الملك من الصيد آخر النهار، قدموا له الثريدة، فأومأت الخرساء إليهم فلم يفهموا ما تقول، ونبح الكلب وصاح فلم يلتفتوا إليه، فلما رأى الملك يَمُدّ يدهُ يريد أن يأكل وثبَ الكلب إلى وسط المائدة داخلاً فمهُ في اللبن وكرع منه فسقط ميتاً في الحال، وبقي الملك مُتعجباً منه ومن فعله، فأومأت الخرساء إليهم فعرفوا مرادها بما صنع الكلب، فقال الملك لنُدمائه وحاشيته: إن هذا الكلب قد فداني بنفسه فأقل شيء أن أدفنه بنفسي، فحمله الملك بين يديه ودفنهُ بيدهِ بين أبيه وأُمه، وبنى على قبره قبة وكتب عليها ما قرأت، وهذا ما كان من خبره. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :