اعتدنا النظر للفنون باعتبارها أدوات للتعبير الإبداعي، ولغة يمكن من خلالها ملامسة التاريخ والمشاعر الإنسانية بشكل يصل للمتلقي مغلفا بمتعة تذوق تخلط بين الحقيقة والخيال، إضافة لكونها منصة يبث بها المبدع قناعاته وأفكاره لجمهوره، بهدف التأثير عليه وتنشيط ملكة التفكير والتحليل والامتنان لعمل ساعده على فهم الأفكار المجردة. معظم الأعمال العربية الفيلمية الجادة تتسم بأنها تحكي وتنقل قصص الماضي، فإما أن تكون مسلسلات عن أمجاد وشخصيات التاريخ والتراث العربي والإسلامي، أو أفلام تتناول ملاحم سطرتها دول وشخصيات من تاريخنا الحديث، يكون غالبها متماشيا مع الخط العام للأنظمة الرسمية وسياساتها المرحلية تجاه المنطقة والعالم، فتأتي مؤطرة برمزيات يفهمها المتلقي الفطن، ولا يستوعبها المتلقي البسيط، ولكنها تؤثر في عقله الباطن بالشكل الذي يثبت التوجهات والأفكار السياسية التي تدعم توجهات الدولة أو شخوصها. استخدام الماضي كركيزة للعمل الإبداعي هو في غالبه هروب من تناول الواقع، فالواقع معاش والناس قادرة بحكم معايشتهم له أن يقرروا ما إذا كان العمل صادقا أو فيه مبالغات تطبيلية، أو أنه إبداع يفتقر للجرأة وتناول الوقائع بحيادية، ولذلك نجد أن معظم أعمالنا العربية الجادة خلال السنوات الماضية لم تكن أكثر من اجترار للماضي وفق رؤية يحركها المكون التجاري والرقيب الفكري السياسي. خلال الشهر المنصرم شاهدت ثلاثة أعمال أميركية تمنيت أن يكون لها مثيل في عالمنا العربي من حيث مزامنتها لما نعيشه من أحداث وتجاذبات، وليس بالضرورة في طبيعة القصة والحبكة بحكم اختلاف المنطقتين، فالعمل الأول هو مسلسل (غرفة الأخبار- Newsroom) الذي أنتجت منه ثلاثة مواسم، ويحكي قصة العلاقة بين الإعلام والسياسة في أميركا، كما يتناول بشكل حرفي عبر أحداثه مسائل جوهرية في العمل الإعلامي من مثيل الحرية وحماية المصادر الإخبارية والدقة في نقل الأخبار وتغليب الحقيقة على السبق، إلى جانب تناول الدور الذي يقوم به الإعلامي ووسائل الإعلام بالعموم في إمداد المتلقي بالأخبار، بعيدا عن تسيس حزب أو توجه أو تأثير مسؤول، كل ذلك في قالب درامي لا يخلو من القصص الإنسانية والعلاقات الاجتماعية اليومية التي يعيشها المواطن الأميركي. المسلسل الثاني هو (بيت من ورق - House of Cards)، الذي تدور أحداثه في أروقة السياسة الأميركية الرسمية بكل ما تتضمنه من تحالفات وخلافات ومؤامرات في مجلسي النواب والشيوخ والبيت الأبيض، إلى جانب الوزارات والشخصيات النافذة في المسرح السياسي الأميركي، وقد أنتجت منه حتى الآن خمسة مواسم، واستطاع أن يعطي المشاهد تصورا يقارب الواقع وما هي عليه حقيقة السياسة الأميركية من تغليب المصالح الشخصية واستخدام الإعلام وجماعات الضغط كوسيلة توجيه وتحريك، وفي كثير من الأحيان تضليل وإرباك. العمل الثالث هو فيلم (مس سلون - Miss Sloane) والذي تدور أحداثه حول الدور الذي تلعبه جماعات الضغط في أميركا، أو ما يعرف باللوبي في التأثير على التشريعيين والتنفيذيين، إلى جانب تسليط الضوء على دور السلطة القضائية كضامن وحامٍ لمصالح الشعب. نحتاج في عالمنا العربي أعمالا تنقل بجرأة وبعيدا عن التوجيه المسبق ملامح من واقعنا المعاش، فالأخبار اليوم أصبحت ملوثة في غالبها بأجندات ولا يمكن اعتبارها مصادر ثقة، أما العمل الإبداعي المستقل فقد يكون فيه بعض الأمل في أن ينشط أذهاننا بملكة التفكير والتحليل والحكم باستقلالية.
مشاركة :