تبلغ الصغيرة 14 أو 13 وربما 12 أو 11 سنة، ويأتي من يطرق بابها معتبراً إياها عروساً مناسبة. تخفيف حمل رعاية الصغيرة في بيت الأسرة إضافة إلى حفنة من الجنيهات «تزعلل» عين الأب والأم ومعها شهادة قبول مجتمعي بائنة، فالجميع يفعل ذلك. لكن الأهم أن مباركة دينية تكلل الصفقة من ألفها إلى يائها ما يقلّص حجم القلق من خرق القانون، فـ «قانون ربنا فوق الجميع». يعرف الجميع في مصر أن عائلات كثيرة سواء في الريف أو في المناطق الشعبية أو العشوائية، على قناعة تامة بأن زواج طفلاتها أمر يستحق الاحتفال ويستدعي الفخر حتى وإن كان بعض ممن يعيش على «كوكب آخر» يعتبره انتهاكاً للقانون أو عنفاً موجهاً ضد الطفلة أو عملاً منزوع الإنسانية مجرّداً من الرحمة. رحمة (19 سنة) تزوّجت قبل خمسة أعوام. لكن عقد زواجها وثّق قبل أشهر فقط، لأن «من يضعون القوانين يعيشون في كوكب آخر». هكذا يصف والد رحمة القوانين المصرية التي تحدد سن الزواج بـ18 سنة، فـ «هذا يفتح باب الزيجات غير الرسمية ويشجّع على الانفلات الأخلاقي». الانفلات الأخلاقي الذي يتحدّث عنه والد رحمة التي توقفت عن الذهاب إلى المدرسة في الصف الثاني الابتدائي، هو ما وصفه داعية متشدد في القرية التي تسكنها وأسرتها بـ «الزنا» الذي يروج وينتعش ويزدهر في المجتمعات التي ترفع سن الزواج. والد رحمة ليس استثناء في تأثره بآراء متشددة ورافضة لتعليم البنات ومؤيّدة لزواج الطفلة ومروجة لتعدد الزوجات. صحيح أن أمثاله يجدون أنفسهم بين نارين: فإما الامتثال لما يصفونه بـ «الشرع» إضافة إلى المنفعة المالية التي تعود عليهم بالتخلّص من الحمل المادي للصغيرات، أو تحمّل نظرات الأقارب والجيران المتشككة لتأخر زواج البنت، والذي يبدأ في بعض المجتمعات من سن 16 أو 17 سنة. قرية «ميت حبيب» في مدينة المحلة الكبرى (محافظة الغربية) تبعد من القاهرة نحو 100 كلم من حيث المسافة، لكنها تبعد من عام 2017 الثالثة مئات الأعوام. وقبل أيام قليلة من الاحتفال باليوم العالمي للطفلة (11 الجاري)، أحالت هيئة النيابة الإدارية إمام مسجد الأربعين إلى محاكمة عاجلة، بعدما تورّط في تزويج حوالى 27 طفلة. وكانت سيدة من أهل القرية تقدّمت ببلاغ إلى مديرية الأوقاف في محافظة الغربية، تشكو فيه إمام المسجد لأنه زوّج ابنتها وعدداً من الصغيرات لم يبلغن السن القانونية زواجاً عرفياً غير رسمي. واتضح أن «الإمام» اعتاد تزويج طفلات القرية والقرى المجاورة بهذه الطريقة، حيث يزعم للأهل أنه زوّجهن زواجاً حلالاً حتى يبلغن السن القانونية وحينها يُبرم الزواج رسمياً لدى المأذون. في الوقت عينه، يحرر المتهم إيصالات أمانة على الزوج ويحتفظ بها حتى إتمام الزيجة القانونية. القانون الذي يواجه مقاومة مجتمعية شديدة ومتصاعدة في سنوات ما بعد ثورة «يناير 2011» يجده بعضهم قاصراً عن حماية الصغيرات. نائب وزير الصحة والمشرف العام على المجلس القومي للطفولة والأمومة الدكتورة مايسة شوقي، تقول إن هناك قصوراً تشريعياً نظراً لاقتصار التجريم على الزواج الرسمي لمن هن دون الـ18 سنة، من دون وجود نص محدد يجرّم الزواج العرفي (غير الموثّق) للأطفال القُصر. كما تؤكد أهمية التوعية المجتمعية بالآثار السلبية لزواج القاصرات. المجلس القومي للطفولة والأمومة جدد تأكيده ضرورة التزام مصر بتعهداتها الدولية والاتفاقات التي وقعت عليها في هذا الشأن، وفي مقدمها اتفاقيتا القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة وحقوق الطفل، إضافة إلى الميثاق الأفريقي لحقوق الطفل ورفاهيته، وميثاق حقوق الطفل العربي، وما أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة من الاحتفال الدولي في 11 تشرين الأول (أكتوبر) من كل عام باعتباره اليوم العالمي للطفلة، وما يدعو إليه من حياة أفضل للطفلات، وزيادة الوعي من عدم المساواة التي تواجهها الفتيات في العالم على أساس النوع. يذكر أن الأمم المتحدة كانت اختارت قضية مناهضة الزواج المبكر للفتيات لتكون قضية العام الأول من الاحتفال باليوم العالمي وذلك في عام 2012. كما أن الرئيس عبد الفتاح السيسي أولى اهتماماً خاصاً بقضية تزويج الطفلات في مصر، وذلك أثناء إطلاق نتائج التعداد السكاني قبل أيام. فقد فوجئ الحضور بأن أعداد المصريين المتزوجين والذين لا يتعدى عمرهم الـ18 سنة تبلغ 18.3 مليون نسمة، وأن حالات زواج القاصرات تمثّل 14 في المئة من إجمالي حالات الزواج في مصر سنوياً. وتصدّرت المحافظات الحدودية اللائحة بنسبة 23 في المئة وبعدها محافظات الصعيد (جنوب). وكشفت الأرقام أن نسبة زواج الأطفال تصل إلى ما بين 30 و40 في المئة من حالات الزواج في القرى والصعيد. وقد دفعت هذه الأرقام الصادمة بالرئيس المصري إلى الطلب بدراسة هذه الظاهرة وكيفية مواجهتها. وأصدر المجلس القومي للطفولة والأمومة بياناً شدد على ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة للتصدّي لزواج الطفلة الذي يعرضها للخطر، إذ لم تتح لها في هذه السن الفرص الكافية لتنضج جسدياً وعاطفياً واجتماعياً. كما يحرمها الزواج المبكر من تطوير مهاراتها وإمكاناتها المعرفية، إضافة إلى ما يمثله ذلك من مخالفة لأحكام الدستور وقانون الطفل. لكن يظل من يخالف الدستور ويناقض القانون مروّجاً له محمياً بالعادات والتقاليد تارة وبتفسيرات دينية مغلوطة طوراً، في انتظار مزيد من التوعية والتعليم والتنوير.
مشاركة :