أشم رائحة التاريخ هنا في بلادي، في هذه الطرقات والأرصفة القديمة المروية بدماء جنودنا البواسل، طاردي الاستعمار من بلادي؛ في هذه الامواج القوية التي تحضن الشاطئ ببطء، كأنها تشفق عليه من قوتها. نعم إنها ارض أجدادي.. اشم رائحة الطين والخضرة في يد جدي «مصطفى»، وهو يزرع ويفلح تلك الأرض.. أراه قادما من بعيد وأركض إليه،لآخذ من يديه معوله والسلة التي بيديه، وهي محملة من أرضنا بكل ما لذ وطاب من خيرات هذه الأرض. أقضم باسناني اللبنية قطعة الجزر، فيأخذها من يدي رفقا بأسناني، ويمسح لي حبة العنب الشهية، خوفا عليّ من التلوث، فآخذها من يديه، وأمسحها كما فعل. نعم، فهو المعلم الأول في حياتي.. ثم اذهب إلى جدتي «آمنة» مستغيثة بها، وشاكيةً لها من قسوة الجزرة، بعد أن أكلت حبة العنب الصغيرة.. حبيبتي جدتي ليس عندها صعاب.. كل ما في الكون هين لين طيعِ بين يديها، وما ألبث إلا برهة حتى أجدها أطعمتني وجدي من أجمل وأطيب الطعام الشهي المعد من يدها الناعمة البيضاء والمحمرة من كثرة حرارة الفرن الذي تقف عنده وتعد لنا ولجدي كل ما تشتهي النفس، فيغسل جدي يديه ويجلسني في حضنه الدافئ ويطعمني معه كل طري.. لأنه يعلم أنني لا أستطيع المضغ جيداً بأسناني الصغيرة.. رحمة الله على أجدادنا الذين هرموا في هذه الأرض، وبقدر ما رويت هذه الأرض بدمائهم للتخلّص من الاستعمار والاحتلال، وبقدر ما اشم ريحهم في كل شبر منها وفي كل حبة رمل.. بقدر ما أشعر بالقلق والخوف على أبنائي وأحفادي.. هل سيدركون قيمة هذه الأرض وتلك الدماء التي روتها؟ فلن يكون معي فرن أخبز فيه، ولا عندهم جد بيده معول، فأتمنى على الله أن يثمنوا ويقدروا قيمة هذه الأرض وقيمة الدماء التي روتها بغير استعمار ولا احتلال.. حفظ الله بلادنا من كل معتد خبيث. حنان عامر
مشاركة :