القرآن كتاب الله القويم، وحبله المتين، والذي أعجز العرب وهم سادة البلاغة والفصاحة يتضمن آيات قد تحتار فيها العقول، لما فيها من غموض. ومن هذه الآيات قول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة «وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (51).. والسؤال هو: لماذا واعد الله نبيه موسى، ولماذا بلفظ ليلة ولم يقل يوماً؟ ولعلنا نجد الإجابة في السطور التالية:يقول الشيخ الشعراوي يرحمه الله في خواطره: «قول الحق سبحانه وتعالى «وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة» هذا الوعد كان لإعطاء موسى المنهج، فحينما كلم الله سبحانه وتعالى موسى بجانب الطور.. كان هذا لإبلاغ موسى عليه السلام أنه رسول من رب العالمين وأنه أرسله ليخلص بني «إسرائيل» من طغيان فرعون وعذابه.. وأنه سيمده بآيات ومعجزات.. حتى يقتنع فرعون وقومه أن موسى رسول من الله تبارك وتعالى.. بعد تكليف موسى بالرسالة وذهابه إلى فرعون.. وما حدث مع السحرة ثم نجاة موسى وقومه.. بأن شق الله جل جلاله لهم البحر.. هذا في وقت لم يكن المنهج قد نزل بعد.. ولذلك بمجرد أن نجى الله سبحانه وتعالى موسى وقومه وأغرق فرعون.. كان لابد أن يتم إبلاغ موسى بالمنهج. وكان الوعد يشمل أربعين ليلة.. هذه الليالي الأربعون حددت كثلاثين أولاً.. تم أتمها الحق سبحانه وتعالى بعشر أخرى.. واقرأ قوله سبحانه وتعالى: «وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلةً» (الأعراف: 142)».ابتداء الزمن في الدين«وعندما يتكلم الدين عن الزمن يتكلم دائماً بالليلة.. والسبب في ذلك أنك لا تستطيع أن تحدد الزمن بدقة بالنهار.. الشمس تشرق وتغرب ثم تعود لتشرق.. فإذا نظرت إلى قرص الشمس.. لا يمكن أن تحدد في أي وقت من الشهر نحن.. هل في أوله أو في وسطه أو في آخره؟ ولكن إذا جاء الليل بمجرد أن تنظر إلى القمر تستطيع أن تحدد الزمن. فإذا كان القمر هلالاً فنحن في أوائل الشهر.. وإذا كان بدراً فنحن في وسطه وهكذا».ويضيف الشعراوي «إن هناك مقاييس دقيقة بالنسبة للقمر وقياس الزمن في عرف الناس؛ الإنسان العادي يستطيع أن يحدد لك الزمن بالتقريب بالليالي.. ويقول لك البدوي في الصحراء: هذا القمر ابن كذا ليلة».وفي منطق الدين نحسب كل شيء بدخول الليل.. فهذه ليلة الأول من شهر رمضان نصلي فيها التراويح.. وليلة العيد لا تصلى فيها التراويح.. وليلة النصف من شعبان.. وليلة الإسراء والمعراج.. وفي كل مقاييس الدين الليل لا يتبع النهار إلا في شيء واحد هو يوم عرفة.. فلا نقول ليلة عرفة وإنما نقول يوم عرفة.. إذن الليلة هي ابتداء الزمن في الدين.. والزمن عند الله مدته اثنا عشر شهراً للعام الواحد.رحمة اللهالسنة الميلادية تختلف عن السنة الهجرية.. والسبب في ذلك أن الله سبحانه وتعالى وزع رحمته على كونه.. فلو أن المواقيت الدينية سارت على مواقيت الشمس.. لجاء رمضان مثلاً في شهر محدد لا يتغير. يصومه الناس صيفاً في مناطق محددة. وشتاء في مناطق محددة ولا يختلف أبداً.. فيظل رمضان يأتي في الصيف والحر دائماً بالنسبة لبعض الناس.. وفي الشتاء والبرد دائماً بالنسبة لبعض الناس.. ولكن لأن السنة الهجرية تقوم على حساب الهلال.. فمعنى ذلك أن كل نفحات الله في كونه تأتي في كل الفصول والأزمان.. فتجد رمضان في الصيف والشتاء.. وكذلك وقفة عرفات وكذلك كل المناسبات الدينية الطيبة.. لأن السنة الهجرية تنقص أحد عشر يوماً عن السنة الميلادية.. والفرق سنة كل ثلاث وثلاثين سنة.ويقول الدكتور سيد طنطاوي، يرحمه الله، في تفسيره «الوسيط» حول هذه الآية المواعدة: مفاعلة من الجانبين، وهي هنا على غير بابها، لأن المراد بها هنا أمر الله - تعالى - لموسى أن ينقطع لمناجاته أربعين ليلة تمهيداً لإعطائه التوراة، ويؤيد ذلك قراءة أبي عمرو وأبي جعفر «وعدنا». وقيل: المفاعلة على بابها، على معنى أن الله - تعالى - وعد نبيه موسى - عليه السلام - أن يعطيه التوراة وأمره بالحضور للمناجاة، فوعد موسى ربه بالطاعة والامتثال فكان الوعد حاصلاً من الطرفين.بين أمة وأمةويقول ابن عاشور التونسي في «التحرير والتنوير» «والمراد من المواعدة هنا أمر الله موسى أن ينقطع أربعين ليلة لمناجاة الله تعالى وإطلاق الوعد على هذا الأمر من حيث إن ذلك تشريف لموسى ووعد له بكلام الله وبإعطاء الشريعة».وما أجمل ما قاله القشيري يرحمه الله في تفسيره حول هذه الآية: «شتان بين أمة وأمة؛ فأمة موسى عليه السلام - غاب نبيهم عليه السلام أربعين يوماً فاتخذوا العجل معبودهم، ورضوا بأن يكون لهم بمثل العجل معبوداً، فقالوا: «هذا إلهكم وإله موسى فنسي» (طه: 88 ) وأمة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم مضى من وقت نبيهم سنون كثيرة فلو سمعوا واحداً يذكر في وصف معبودهم ما يوجب تشبيهاً لما أبقوا على حشاشتهم والحشاشة هي روح القلب ورمق حياة النفس، وكل بقية شيء حشاشة ولو كان في ذلك ذهاب أرواحهم.»
مشاركة :