إذا كن حرّات، أو في طريق التحرر، لماذا تتخلى الكثيرات عن أحلامهن، وعن مواهبهن، ويرضين بحياة رتيبة منصاعات إلى ثقل المجتمع الذي يكسر الظهر، ويحطم الذات لتذوب في تيار الجماعة.العرب محمد ناصر المولهي [نُشر في 2017/10/13، العدد: 10780، ص(14)] كانت تقام في مختلف محافظات تونس العديد من الملتقيات الأدبية في شكل مسابقات للمواهب الشابة، يقيمها النظام تكريسا لنفسه، لكن المفارقة أنه من كواليسها أو هوامشها، نشأ جيل أدبي محترم، جيل متحرر رافض، تمكن من النهوض بالأدب التونسي من عقود التخبط والمخاض. من بين المئات، كي لا أقول الآلاف، الذين كانوا يشاركون في هذه المسابقات لم يبق إلا القليلون جدا ممن واصلوا في الكتابة شعرا أو سردا أو نقدا، وهذا منطقي وطبيعي، حيث ليس كل مولع بالكتابة كاتبا بالضرورة، لكل ظروفه التي توقفه عن الكتابة، وعن تطوير تجربته. اللافت في هؤلاء العشرات هو شبه الغياب للعنصر النسائي ممن كن يشاركن في فعاليات مختلفة، من المولعات بالكتابة وصاحبات نصوص جيدة ومبشرة -أغلبها في القصة القصيرة-، نصوص توجت بجوائز ونالت الإعجاب، ولكن لم يبق منهن إلا عدد ضئيل جدا في طريق الأدب اللانهائي. لكل من المنقطعات عن الكتابة ظروفها، لكن اللافت أن هذه الظاهرة مشتركة تقريبا بين أغلب الفنون. فالكثير من المسرحيات ظهرن على الخشبة لمرة أو مرات معدودة وقدمن أداء لافتا لكنهن غبن من بعد، ونفس الشيء في الموسيقى أو الفن التشكيلي وغيرهما. ربما وضع المرأة مخصوص قليلا، حيث تعيش المرأة التونسية، رغم ما لها من مكاسب لو قارناها بالحال العربي، حالة نضالية، خاصة ما بعد الثورة، لمواصلة طريقها نحو التحرر والمساواة، ودفاعا عن حقوقها العادلة. لكن المرأة التونسية، وخاصة المبدعة، مازالت في طريق ضبابي إلى حريتها، ضبابية مرتبطة أساسا بماهية هذه الحرية، وهل هي منوطة بمعارضة الذكورية والرجل؟ وهل يمكن للإبداع تحقيق الحرية؟ يمكننا استقدام الأفكار النيرة أو حتى إنتاجها على مستوى النخب، لكن قابلية تطبيق هذه الأفكار وحتى طريقة تطبيقها ضمانا لنجاعتها، تظلان أمرا مختلفا تماما. ومن المعروف عن المثقف العربي انقطاعه عن مجتمعه، قراءاته، موسيقاه، ذائقته، أفكاره وغيرها من هذه العناصر التي أغلبها مستقدمة من بيئات أخرى. لذا تظهر القطيعة جلية بينه وبين مجتمعه، ما يؤثر إما بعدم نجاعة ما يطرحه من أفكار أو حتى تخليه عنها أو تشبثه بها في عزلته. نقيس هذا الأمر على المرأة التونسية المشتغلة في حقل الإبداع. نعلم أن الإبداع وليد الحرية الفردية بالأساس، وهنا قد يعارض البعض مستشهدا بأدب السجون مثلا، والإجابة جلية، أن الحرية بالأساس تبدأ من الوعي أي من الداخل إلى الخارج لذا فمبدع في السجن يمكنه أن يكون حرا في داخله. بما أن الإبداع وليد الحرية، أو لنكن أكثر دقة وليد مسار التحرر، فإن المرأة التونسية في مسار تحررها مازالت لم تتوضح بعد خطاها في ضبابية المشهد المحاصر بالدين والعادات والسياسات الشعبوية، فلا نستغرب من وجود امرأة تنادي بالحرية وترفض الحرية الجسدية أو الدينية، أو تنادي بحرية الجسد وترفض حرية المعتقد، إلخ. تناقضات كثيرة مطروحة أمام المرأة بين بنية الفكر والجماليات الفوقية، والبنية التحتية للمجتمع والواقع، وما بينهما كثيرات يتمزقن. أعود هنا إلى انقطاع الكثير من النساء عن الإبداع، رغم ما لهن من مواهب لافتة، أسباب قد تكون بسيطة وساذجة، منهن ما يكون الزواج مثلا سببا في تطليقهن من كل ما له علاقة بالإبداع أو التحرر. أخريات يتقلص عندهن زخم التحرر، وتنهكهن الهوة بين الفكري والواقعي، فيعدن إلى التفكير في الاستقرار والأمومة ومؤسسة الزواج، ويخفن من الزمن فيتراجعن. أخريات تحاصرهن الذكورية التي تستغل تحررهن جسدا أو فكرا، فيتراجعن كذوات لا يستطيعن الانتصار لأنفسهن أمام قوة الجماعة. أسباب كثيرة يمكن تلخيصها تحت يافطتين كبيرتين؛ الأولى أسباب ذاتية متعلقة بذات المرأة، والثانية أسباب خارجية متعلقة ببنية المجتمع المتكلسة. أسباب مثل هذه تعيدنا إلى نقطة الصفر، لنتساءل، كيف تكون حرية المرأة؟ وهل المناديات بالحرية من النساء المبدعات حرّات بالفعل؟ وإن كان منوطا بالنساء المبدعات أن يكن في المقدمة، لماذا يهربن أو يتراجعن؟ إذا كن حرّات، أو في طريق التحرر، لماذا تتخلى الكثيرات عن أحلامهن، وعن مواهبهن، ويرضين بحياة رتيبة منصاعات إلى ثقل المجتمع الذي يكسر الظهر، ويحطم الذات لتذوب في تيار الجماعة. شاعر تونسيمحمد ناصر المولهي
مشاركة :