لكل جديد لذة كما يقال، وهذا ما جعل الكثيرين يهجرون بيوت الطين التي بقيت شامخة لمدة قرون في شتى بلادنا بعد أن تطور البناء وحلت المباني المسلحة والخرسانية محل هذه البيوت، فسارع الجميع فرحين بالرحيل إلى البيوت الجديدة، حيث صاحب ذلك هجرة جماعية بلا رجعة من الأحياء الطينية إلى المنازل الجديدة، وقد ساهمت عمليات نزع الملكيات من قبل البلديات إلى سرعة انتقال السكان إلى المخططات السكنية الجديدة التي وزعتها البلديات على المواطنين مجاناً، فدبت فيها الحياة وتنامت بسرعة كبيرة، وأصبح الناس يطلقون على مكان البيوت الطينية "الديرة القديمة"، أصبح العامر منها في ذلك الوقت مسكناً للعمالة الوافدة التي استأجرتها بثمن بخس لسنين عديدة ثم هجروها هم أيضاً إلى مبان أحدث، ولكنها في نظر من عمروها تسمى "البيوت الشعبية"، والتي كانت تبنى بــ"البلوك" والإسمنت، ولكن ليست مثل الفلل الحالية، فقد كان أساسها من الصخور الذي يبنى عليه البلوك وبدون أعمدة خرسانية مزودة بالحديد، وكان السقف يسقف بالخشب الذي يسمونه "مرابيع" إذ يغطونه بخشب "ابلكاش"، ومن ثم شبك من الحديد ويصبون فوقه الخرسانة الرملية المخلوطة بالإسمنت يدوياً، وبعد استقرار العمالة الوافدة في المباني الشعبية أهملت البيوت الطينية وصارت تتهاوى الواحدة تلو الأخرى جراء هطول الأمطار الغزيرة وعدم الاهتمام بتصريف المياه في سطوحها، مما أدى إلى انسلاخ جدرانها الطينية ووقوعها في أماكن تصريف المياه، مما أدى إلى تجمعها وعجل بسقوطها. بقي هذا الوضع لعشرات السنين حتى ظهر جيل جديد يحن إلى بيوت الطين التي هي مساكن الأمس القريب والتي كانت مسقط رأس الكثيرين ممن اقتربوا من سن الكهولة، فبدؤوا في إعمارها وترميمها وإعادة الحياة إليها، ولعل أقدم بلدة تراثية كان لها قصب السبق في هذا المجال هي بلدة "أشيقر" التابعة لمحافظة شقراء والتي تبعد عنها مسافة (13)كم شمالاً، وعن العاصمة الرياض (180) كم تقريباً، فقد كانت البداية عبارة عن فكرة لإنشاء دار للتراث في عام 1419هـ كما ذكر ذلك المؤلف سعود بن عبدالرحمن اليوسف، فبدأت المكاتبات ومخاطبة ملاك المنازل عام 1420هـ وما بعده، وبعد ما تم الانتهاء من تشييد الدار في حدود عام 1425هـ بدأت تستقبل الرواد في الإجازات الصيفية والمناسبات وفي الإجازة الأسبوعية، ومع مرور الوقت زاد تدفق السياح حتى باتت القرية التراثية تستقبل الوفود السياحية يومياً، وكان لهيئة السياحة والآثار ووزارة الشؤون البلدية والقروية ممثلة في بلدية أشيقر وكذلك شركة الكهرباء والمياه جهوداً حثيثة في تقديم الخدمات للبلدة القديمة، مما ساهم في تنشيطها سياحياً، ومع مرور الوقت زاد اهتمام الكثيرين بمنازلهم الطينية في شتى مناطق المملكة بعد أن شاهدوا مدى إقبال السياح والزائرين لها حيث صارت مصدر جذب سياحي كبير. حنين شاعر لعل الحنين إلى مرابي الصبا والطفولة قد أيقظ في كثير من النفوس حب العودة إلى حياة الأمس الجميلة والبسيطة، بعد أن شاهدوا تعقيدات الحياة، فباتوا يقضون بعض الوقت في زيارة بيوتهم الطينية التي بدأ ينخر فيها الزمن، وباتت تتهاوى في ظل عدم اهتمام أهلها بها وهجرانها وكأنها تعبر في ذلك عن حزنها العميق لذلك، وقد صور العديد من الشعراء ذلك الحنين في الكثير من قصائدهم وتغنوا بها، ومن أشهر ما قيل في ذلك قول الشاعر سعد الخريجي التي تحدث في قصيدة له عن عشق الأطلال ومنها قوله: يا ناس ذاك البيت لا تهدمونه خلوه يبقى للمحبين تذكار خلوه حب سنين خلفه ودونه في داخله قصة مواليف وأسرار من يعشق الأطلال دمعه يخونه لا صارت أقدامه على سكة الدار عش الحمام اللي بعالي ركونه رمز الوفاء رمز المحبة والإصرار ونتيجة لحنين الكثيرين إلى منازلهم القديمة بدأ البعض بمحاولات فردية من أجل ترميم بيوتهم الطينية القديمة وجعلوا منها استراحة لهم ولعائلاتهم يقومون بزيارتها في إجازة نهاية الأسبوع، ومع مرور الوقت تنامت هذه البيوت وتحولت إلى قرى تراثية جميلة باتت محل إعجاب الكثيرين من الزوار والسياح. تنمية وتأهيل وتشهد القرى التراثية في معظم المناطق مساهمة القطاع الخاص في سبيل إعادة بناء البلدات القديمة التي تحتوي على مجلس القرية ومساجدها التراثية ومنازلها الطينية البديعة إضافةً إلى الآبار والمزارع، حيث قدم الكثير من رجال الأعمال مبادرات عديدة من أجل إعمار هذه القرى التراثية سعياً منهم إلى الوصول بها إلى قرى جميلة متكاملة الخدمات، وقامت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بمبادرة تبني فكرة إعمار تلك القرى حيث رعى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أمير منطقة الرياض آنذاك- يوم الأحد 24 ربيع الأول 1432هـ إطلاق مبادرة "ثمين" لتنمية وتأهيل مواقع التراث العمراني في منطقة الرياض، واستقبل بحضور صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز -رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني- عدداً من مؤسسي صناديق "ثمين" في عدد من المحافظات بمنطقة الرياض، ودشن شعار هذه المبادرة التي تتبناها الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بالتعاون مع شركائها من الجهات الحكومية والمجتمعات المحلية في البلدات والقرى التراثية في منطقة الرياض، وقال صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز: إن مبادرة "ثمين" هي عبارة عن مشروع وطني ليس لهيئة السياحة والآثار بل للوطن، مبيناً أن شراكات تنمية القرى التراثية التي انطلقت في منطقة الرياض والمساهمة التي يقوم بها القطاع الخاص والأهالي على مساحة المملكة الشاسعة وضخ الدولة من خلال تخصيص مشروعات في البنية التحتية التي تقوم بها الجهات الحكومية المتخصصة بالتنسيق مع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ستكون الأساس لانطلاق مشروعات تنمية وتأهيل هذه القرى والبلدات التراثية، مشيراً إلى أن تمويل مشروعات المبادرة يعتمد بشكل أساسي على ما يخصص في ميزانية الهيئة ومشروعات الشركاء والجهات الحكومية، إضافةً إلى رعاية ودعم الشركات الكبرى ورجال الأعمال والمجتمعات المحلية لكل مشروع ضمن إطار صندوق ثمين. مسارات سياحية وفي ظل الرعاية التي تحظى بها القرى التراثية من قبل الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، فقد سعت إلى تطوير تلك القرى وتهيئتها لاستقبال السياح، ففي منطقة الرياض على سبيل المثال قامت الهيئة بتفعيل خمسة مسارات سياحية وهي (مسار المجمعة) الذي يبدأ في مدينة الرياض مروراً بمحافظة المجمعة ومحافظة الغاط ومحافظة الزلفي، ومسار (الرياض- الخرج- الدلم)، و (مسار الرياض- عودة سدير- روضة سدير)، و(مسار شقراء) الذي يبدأ من العاصمة مروراً بالقصب ومدينة أشيقر ومحافظة شقراء، وأخيراً (المسار الداخلي) المتضمن مواقع سياحية وتراثية داخل مدينة الرياض ويشتمل على زيارة لقصر المصمك، ومركز الملك عبدالعزيز التاريخي -المتحف الوطني-، ومتحف صقر الجزيرة والدرعية ووادي حنيفة، وهذه المسارات الخمسة تحظى بإقبال كبير من الزوار والسياح سواء من المواطنين أو السياح الأجانب. ويوجد مساران سياحيان في منطقة القصيم الأول ينطلق من بريدة بالتوجه إلى مركز الحرف والصناعات اليدوية ومن ثم التوجه إلى متحف عبدالرحمن اليحيى، ثم تنتهي رحلة المسار إلى متنزه الجراد الرملي للاستمتاع بأجواء ليلية رائعة، أمّا المسار الثاني فهو مسار محافظة عنيزة الذي يبدأ عند بيت الحمدان للتعرف على الحياة القديمة للمنطقة بطريقة إبداعية ومجسمات لأفراد العائلة يمارسون نشاطاتهم اليومية في زيارة قد تستغرق الساعة، ومن ثم التوجه إلى "سوق المسوكف" و"بيت البسام" والتعرف على تراث المدينة وثقافتها وبعد ذلك يحين موعد متنزه الغضا للاستمتاع بجولة بين التلال الرملية الذهبية وأشجار الغضا وتناول طعام العشاء في سهرة ماتعة، ويوجد العديد من المسارات الأخرى التي يستطيع كل من يرغب في الرحلات السياحية الدخول على موقع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني لمعرفة كافة المسارات في مختلف مناطق المملكة مثل مسارات سكاكا والدمام والباحة ومسار السيرة النبوية في المدينة المنورة، وكذلك مسار عسير ومسار مدينة حائل ومسار التاريخ الإسلامي في مكة المكرمة، إضافةً إلى مسار الظهران والخبر وجزيرة فرسان ومحافظة دومة الجندل ومسار مدائن صالح وحقل وضباء والهفوف وتيماء وينبع والوجه وأملج والخرج والقطيف وغيرها. نزل السياح وفي إطار الاهتمام المتنامي بالبلدات القديمة والبيوت والقصور الطينية واستغلالها كمصدر جذب سياحي يدر دخلاً للكثيرين ممن يهتمون بإحياء التراث فقد ظهرت في الآونة الأخيرة عملية استغلال الكثير من البيوت الطينية القديمة والقصور الأثرية وبعض المزارع القديمة كـنزل للسياح، تشابه في خدماتها الفنادق الفخمة، وبات الكثير من هذه النزل مطلباً للكثيرين ممن ينشدون الراحة والاستجمام في هذه النزل التراثية التي تحكي البساطة وتجمع بينها وبين الرفاهية من حيث الأثاث، إضافةً إلى تقديم الوجبات الشعبية اللذيذة التي تغري بتكرار التجربة، وقد وفرت تلك النزل العديد من فرص العمل للشباب السعودي من الجنسين وخصوصاً من الأسر المنتجة التي وجدت في مثل هذه النزل والمهرجانات السياحية والقرى التراثية ترويج منتجاتهم اليدوية من ملابس وصناعات حرفية وأكلات شعبية. تنافس وسباق بعد نجاح العديد من القرى التراثية في ترميم البيوت الطينية والممرات والأسواق القديمة والمزارع والآبار، فقد بات هناك تنافس وسباق محموم بين الكثير من المحافظات والمراكز في الحفاظ على البيوت الطينية من السقوط والعمل على ترميمها، بل وتعدى الأمر إلى قيام الكثيرين بترميم منازلهم وتحويلها إلى متاحف خاصة تحوي الكثير من القطع الأثرية النادرة وسعوا إلى تسجيلها لدى الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني لتشرف عليها، وباتت تلك البيوت بما تحويه من تحف أثرية معالم في كل بلدة تقع فيها، وصارت مقصد الكثيرين من السياح سواءً من الداخل أو الخارج الباحثين عن التراث والآثار، وعادت الحياة إلى بيوت الطين بعد أن كانت مهملة وخارج الحسبان وعادت الكثير من القرى إلى حياتها الطبيعية كما كانت عليه سابقاً بمساجدها القديمة وأسواقها ومزارعها وطرقاتها الضيقة الجميلة التي شهدت حياة جيل الأمس الجميلة، ووجد فيها الكثير من الناس خاصةً من كبار السن المتعة والسعادة وهم يتجولون فيها مستذكرين حياتهم البسيطة. بيت من الطين هجره أصحابه إلى المسكن الحديث بلدة أشيقر التراثية لوحة تراثية جميلة أحد المهرجانات السياحية ببلدة أشيقر التراثية مبادرة «ثمين» حولت التراث العمراني إلى معالم وطنية إقبال كبير على القرى التراثية من السياح سوق المسوكف بعنيزة أحد المسارات السياحية إعداد: حمود الضويحي
مشاركة :