قبل عقدٍ من الزمن، كان من الممكن عدّ المحطات الإذاعية في السودان على أصابع اليد الواحدة. وكانت الدولة الواقعة في شمال إفريقيا تتدفق بالمال النفطي، كما كانت العاصمة الخرطوم تتمتع بازدهارٍ في مجال العقارات وبتدفق المستثمرين عليها من الصين، والهند، والخليج. أمَّا بالنسبة للشباب السوداني، فلم يكن يحظى سوى بالقليل. إذ يقول طه الروبي وفق صحيفة : "كانوا جميعاً يغادرون البلاد فحسب. كان جميع الأطفال الأذكياء يريدون مغادرة السودان". غادر طه نفسه، وهو سوداني - إيراني، إلى الولايات المتحدة خلال فترة الثمانينات المضطربة في السودان. توجَّه أولاً إلى مصر، ثم إلى بريطانيا، ومنها إلى الولايات المتحدة. يضيف تقرير The Guardian أصبح منسق ومنتج أغان قبل أن يعود في نهاية المطاف في عام 2005 إلى بلدٍ لا يكاد يشبه تلك التي عرفها صبياً. بلدٌ يخضع لحكمٍ استبدادي، وشديد التحفظ، يرزح تحت وطأة عقوباتٍ أميركية تهدف إلى الإطاحة بالنظام العسكري لعمر البشير، الذي وُضِعَ اسمه بعدها على قائمة المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية بسبب مزاعم الإبادة الجماعية في إقليم دارفور. وجرى القضاء على موسيقى البوب، جنباً إلى جنب مع الملابس الغربية، والسينما، والنزعة الاستهلاكية، وتجريفها على يد "ثورة الإنقاذ الوطني" التي أعقبت انقلاب البشير في عام 1989. يقول طه موضحاً: "وجدت هذا الفراغ هنا"، ولذلك قرر إنشاء محطةٍ إذاعية لإذاعة الموسيقى الغربية، والتحدث باللغة الإنكليزية حول تلك المواضيع التي تثير اهتمام الشباب السوداني.أنشأ إذاعة أصبحت متميزة ويضيف: "لم تكن فكرة إنشاء محطة إذاعية تعزف فقط أنغام موسيقى البوب بالمقبولة تماماً، إذ قالت لي الحكومة بمنتهى الصراحة: لن تحصل على الترخيص". لكن بعد 6 سنوات، وبفضل جهوده الدؤوبة، (التي يعبر عنها طه بقوله: "لقد عشتُ داخل وزارة الإعلام")، استجابت الحكومة، وتمكن طه في عام 2013، من إطلاق محطة كابيتال إف إم الإذاعية. واليوم، المحطة التي يطلق عليها "A loudspeaker for the youth"، أو "مكبر صوت للشباب"، تجذب ما يقرب من 2 مليون مستمع، ولا تزال هي المحطة الإذاعية الأسرع نمواً في بلد يحتوي الآن على أكثر من 40 محطة إذاعية. ويُعلِّق طه على ذلك قائلاً: "اعتقدتُ أنَّها ستتمتع بمكانةٍ عالية الشأن"، مستطرداً: "ولكنَّها حطمت ما سواها". ويُعد نجاح موجة كابيتال إف إم الإذاعية بمثابة علامة على التحولات المتعثرة التي حدثت في السودان على مدى السنوات القليلة الماضية. في 12 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، رفعت الولايات المتحدة أخيراً العقوبات الاقتصادية عن السودان، مما أنهى عزلة الدولة عن الاقتصاد العالمي التي دامت 20 عاماً. ووفقاً لحكومة الولايات المتحدة، فقد حسنت السودان من وصول المساعدات الإنسانية، وبذلت جهوداً من أجل إنهاء الصراعات الداخلية التي طال أمدها، كما عززت جهودها لمكافحة الإرهاب. وقد بدأ النظام في الخرطوم، الذي عارض الولايات المتحدة الأميركية لعقود وحصن نفسه ضد الغرب، يميل مجدداً للدوران في فلكهما.لقد عزلتنا (العقوبات) عقلياً ثمة جيل بأكمله من الشباب السوداني لا يكاد يحمل أي ذكرى للحياة قبل فرض العقوبات التي شكلت إلى حدٍّ كبير علاقته مع العالم الخارجي. وفي هذا الصدد تقول هناء علي، وهي صيدلانية تبلغ من العمر 28 عاماً وتدرس اللغة الإنكليزية في فصولٍ دراسية تطل على نهر النيل في وسط الخرطوم: "لقد عزلتنا (العقوبات) عقلياً"، مشددةً "أنَّها ليست اقتصادية فحسب". إذ تشتكي هناء والمهنيون من أمثالها من عدم قدرتهم على الوصول إلى المنشورات الأكاديمية، وتحميل أحدث البرامج الإلكترونية أو حتى نيل المؤهلات الدولية من دون مغادرة البلاد. وتتفق معها مايا غدير، التي تعمل مذيعة راديو بكابيتال إف إم، قائلةً: "العقوبات تُصعِّب عليك الاستمتاع بحياتك"، مضيفةً: "يلازمنا هذا الشعور بالانغلاق عن بقية العالم". وتوضح أنَّه يصعب الحصول على تأشيرات دخول الدول الأجنبية من داخل السودان، قائلةً: "ثمة وصمة عار في الأمر". يُشكل السودانيون ممن هم دون الـ24 عاماً ما يقرب من 60% من إجمالي السكان، وحوالي ربع من هم في سن العمل من تلك الفئة عاطلون عن العمل، رغم أنَّ العدد على الأرجح أكبر بكثير في الخرطوم والمناطق الحضرية الأخرى. لم يتزحزح هذا الرقم منذ 1991، مما أثار غضباً واسع النطاق تجاه الحكومة. وعمَّت الاحتجاجات الطلابية بين عامي 2011 و2013، والتي جرى قمعها بوحشية على يد الشرطة، ما أسفر عن مقتل العشرات وفقاً لمنظمة حقوق الإنسان. وكذلك احتجَّ الآلاف الآخرون، في أبريل/نيسان من العام الماضي، عقب وفاة طالب في ولاية شمال كردفان بوسط السودان. رغم أنَّ الحكومة جعلت من الغرب كبش فداء، فقد ألقى العديد من الشباب السودانيين باللائمة على الحكومة السودانية في الألم الناجم عن العقوبات. إذ يقول بمرارة محمد الصادق، وهو خريج في مجال البناء يبلغ من العمر 27 عاماً: "لم يعان أيٌّ من أفراد الحكومة". ويتفق معه الطيب حاجو، وهو موسيقي ومصمم غرافيك بمحطة كابيتال إف إم الإذاعية، قائلاً: "التأشيرة لا تعني شيئاً بالنسبة لهم. العقوبات كانت بالأساس الحائط الذي علَّقوا عليه أخطاءهم".الأثرياء سافروا للخارج بإعطاء ظهورهم للحكومة، تطلع الشباب السودانيون إلى الخارج. وسافر الأثرياء منهم وفق The Guardian إلى الدراسة بالخارج، في حين تمكن من بقي منهم في البلاد من التواصل مع بقية العالم بفضل شبكة الإنترنت، التي لا تخضع للرقابة في السودان نسبياً، على عكس إثيوبيا وإريتريا المجاورتين. وفي الفراغ الذي خلفته العلامات التجارية الغربية وراءها، أنشأ رواد الأعمال نسخاً مقلدة هازلة تعادل: ستاربكس، وصبداي، وكوستا، وكافوري فرايد تشيكن. وتوجد اليوم دار سينما واحدة فقط في الخرطوم، إلا أنَّ المحلات التجارية في جميع أنحاء المدينة تبيع أفلام هوليوود المقرصنة، وأحدث مسلسلات نتفليكس وأمازون على وحدات ذاكرة "يو إس بي". ومن جانبها تقول هنادي سليمان، وهي طبيبة شابة نشأت في بريطانيا ولكنَّها عادت إلى السودان لتقطن في بيت أبيها من أجل الدراسة: "يرغب الناس في خوض تجربة الشعور بأنَّهم غربيون". وتضيف: "هناك ذلك الفضول الهائل تجاه الغرب، إنهم جميعاً يرغبون في التوجه إليه. وهم لا يكنون عداءً تجاههم، بل على العكس تماماً".أصبح المجتمع أكثر انفتاحاً يشير بعض السودانيين إلى أنَّ السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً تدريجياً في المبادئ الأخلاقية، وخاصةً بين الشباب الأصغر سناً والأفضل تعليماً. وفي هذا السياق تقول هنادي: "ثمة فجوة كبيرة بين الأجيال". إذ تلاحظ هي وغيرها أنَّ الحظر المفروض على الملابس، أغطية الرأس وحظر السراويل على النساء، يجرى فرضه بصورةٍ أقل صرامة مما كان عليه الحال في الماضي، وخاصةً في تلك المناطق الأكثر ثراءً بالخرطوم، وكذلك يتناول البعض المشروبات الكحولية والمخدرات غير المشروعة. بيد أنَّ كثيراً من الأمور بقيت على منوالها، إذ لا تزال الشرطة الدينية تشن الهجمات على الحفلات الخاصة، وتُعتقَل النساء بسبب ملابسهن، ويُفرَض حظر التجوال. وفي الشهر الماضي، جرى إغلاق حفلٍ موسيقي أُقيم في مقهى بالخرطوم عن طريق العنف، واعتُقِلَ العشرات. ويقول الطيب: "ألقوا بهم في شاحنة بدعوى عدم حصولهم على تصريح باستخدام الغيتار". وأضاف: "ووُجِّهَت التهمة إلى أحدهم بالغناء باللغة الإنكليزية. وقد ابتدعوا هذه التهم في موقع الحدث". تفاؤل بين الشباب السودانيين بالنسبة لطه وفق The Guardian ومحطة كابيتال إف إم، لا تزال ثمة الكثير من القيود، إذ يقول متنهداً: "أحب أن أُنشِئ ملهى ليلياً"، مستطرداً: "ولكنَّ ذلك غير ممكن". ولا يمكن للمحطة أن تعقد المناسبات العامة، أو أن تدعو الموسيقيين من الخارج. وقد أُقيمَت حفلة الذكرى الثانية لها في مقر السفير الإسباني الذي يتمتع بحصانةٍ دبلوماسية. وهم يفرضون رقابةً ذاتية على أنفسهم، ويتجنبون تناول المواضيع المحرمة على الهواء. ويقول: "نحن لا نهتم بالسياسة، ولا الدين، ولا تغيير النظام"، ويضيف: "وجودنا يعود بالنفع عليهم، فهم يريدون أن يرى الأجانب أنَّ السودان لديه إذاعة باللغة الإنكليزية، وهو أمرٌ جيد للصورة الجديدة". أما فيما يتعلق بمستقبل السودان، فثمة تفاؤل بين الشباب السودانيين، وإن كان مشوباً بالحذر أيضاً، بعد إرثٍ من خيبة الأمل واللامبالاة خلَّفه إمضاء ما يقرب من ثلاثة عقود تحت رئاسة واحدة. ويحاول الآلاف من السودانيين القيام برحلاتٍ محفوفة بالمخاطر إلى أوروبا وغيرها من الوجهات الأخرى كل عام، إذ يقول أحمد إلياس، وهو خريج كلية الهندسة ويبلغ من العمر 28 عاماً: "جميعنا تقريباً لن نتوانى عن المغادرة إن واتتنا الفرصة". بيد أنَّ رفع العقوبات أعطى بصيصاً من الأمل، على الأقل في الوقت الراهن، ما يصفه محمد بأنَّه "أشبه بنافذة فُتِحَت على العالم الخارجي"، مضيفاً أن الأمر "يحمل الكثير من الإثارة".
مشاركة :