الإنسان و"الفردوس الإلكتروني" في عيون خبراء الذكاء الاصطناعي وروائي مصري

  • 10/17/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في العام 1992، نشر الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز “هوامش على مجتمعات السيطرة”، أحد أشهر مقالاته عن التغيرات العديدة التي تمر بها المجتمعات الحديثة. يحاول دولوز في هذا المقال القصير أن يتخطى فكر ميشيل فوكو حول “مجتمعات الإنضباط”، أي مجتمعات القرنين الثامن عشر والتاسع عاشر حيث تمارس السيطرة في مؤسسات فينتقل المرء من بيئة مغلقة لأخرى. يقدم دولوز نحو مفهوم “مجتمعات السيطرة” حيث يكون المرء بمثابة رمز يعرّف به، ويصبح الأفراد “كيانات مميزة”، هي عينات وبيانات للشركات الضخمة والبنوك. ويربط دولوز ما بين نموذج المجتمع ونوع الماكينة التي تمثله، موضحاً أن مجتمعات السيطرة تدار من قبل أجهزة الكمبيوتر. لم يبد دولوز متفائلاً من تداعيات مجتمعات السيطرة، لكن رغم ذلك، لم يتخيّل أبداً مدى تأثير الكمبيوتر والرقمنة على مجتمعاتنا الحديثة وحياتنا اليومية. هذه العلاقة بين التكنولوجيا والإنسان والمجتمع شغلت الكثير من المفكرين والكتاب في العالم العربي، تختار المقالة الكاتب المصري صبري موسى الذي أصدر روايته “السيد من حقل السبانخ” عام 1987، وأعيد نشرها حديثاً عام 2014. لأنها تتناول العديد من الأسئلة الهامة عن واقعنا ومستقبلنا، كالعلاقة بين الآلة والإنسان، والتقدّم البشري ودور المرء في المجتمع، والأبعاد الفلسفية للتطور التكنولوجي.أقوال جاهزة شاركغردفكرة صراع الآلة والإنسان، رغم شيوعها، هل هي الطريقة الخاطئة للتفكير بمستقبل التكنولوجيا في حياتنا؟ شاركغردرواية "السيد من حقل السبانخ"، تجربة إنسانية فريدة، لأحد سكان "عصر العسل" في القرن 24 شاركغردإن العصر المهني لاستخدام الروبوتات قد بدأ، وبحسب أخصائيي الذكاء الاصطناعي، لا طريق أمامنا سوى التكيف رجل "السبانخ" في "عصر العسل" "نحن البشر نمر الآن بوضع شبيه بإنسان ما قبل التاريخ، عندما فتح عينيه منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، على دنيا جديدة تماماً... ولقد تعودنا على دراسة الماضي لنلقي الضوء على الحاضر... لكنني الآن أقلب لكم مرآة الزمن، مقتنعا بأن صورة واضحة للمستقبل، يمكن أيضاً أن تمد حاضرنا بعديد من البصائر التي لا غنى عنها". هكذا افتتح موسى روايته الثرية التي تدور أحداث الرواية في فترة زمنية مستقبلية تسمى "عصر العسل” في النصف الثاني من القرن الرابع والعشرين، أي بعد ثلات قرون. تشهد هذه الفترة تطوراً تكنولوجياً ضخماً بعد سنوات من الحروب الإلكترونية التي دمرت الأرض تماماً في القرن العشرين، حيث بدأ بعض العلماء الذين نجوا من الحرب في إعادة تشكيل العالم على أسس جديدة، صارمة ومحددة، تعتبر الآلة المحرك لكل شيء. جاء إصدار الرواية الأول عام 1987، من الهيئة المصرية العامة للكتاب، بعد أن نشرت مسلسلة على حلقات في مجلة "صباح الخير" الأسبوعية القاهرية (بين أغسطس/آب 1981 إلى يناير/كانون الثاني 1982)، وأعيد إصدارها حديثاً (2014) في المجلد الأول من "الأعمال الكاملة لصبري موسى". بطل الرواية هو السيد "هومو" العامل في حقل الاستنبات الضوئي لإنتاج أكوام هائلة من أوراق السبانخ الخضراء، مع أنه شخصياً لا يحب السبانخ. يسير العمل وفق نظام صارم، لا يتخلف أحد عنه، إلى أن جاء يوم شعر فيه "هومو" بالضيق والملل، فخرج من الطابور الطويل الممتد إلى المركبات الفضائية التي تنقل العمال من منازلهم إلى حقل السبانخ، وهكذا تنقلب حياته رأساً على عقب ويصبح حديث المعمورة، وبذلك أيضاً تبدأ رحلته في البحث عن حياة مختلفة. لم تقدّم الرواية درامياً، ولم تحظ باهتمام تليفزيوني أو سينمائي، إلا في مسلسل إذاعي واحد، مع أنها من واحدة من أهم روايات كاتبها، الذي قدم أيضاً سيناريو الفيلم المصري "البوسطجي" والرائعة الروائية الأخرى "فساد الأمكنة"، التي صنفت ضمن أفضل 100 عمل روائي عربي. التكنولوجيا تتقدم، لكن إلى أين؟ يتعامل موسى مع سؤال هام ومحور أساسي في الرواية ألا وهو إلى “أين تسير البشرية الممثلة في هذا المجتمع الشديد التقدم بعد أن وصلت بإمكانياتها إلى التحكم في الطبيعة والفضاء؟” ويضيف الكاتب، كما ورد في مجلة العربي، عدد إبريل/نيسان 2003، أنّ "الرواية كانت وليدة تجربتي في المجتمع الأمريكي وهو مجتمع الوفرة الذي أنجز وساهم في تطبيق جميع المخترعات في تاريخ البشرية واختراع الإنترنت، أقوى الشبكات للمعلومات في العالم، وجدته صورة من المستقبل الذي تتجه إليه البشرية، لأنه حقق كل الآمال والرغبات للإنسان. ورغم أنه مجتمع ديمقراطي ولديه هذا القدر من الحرية فإنه أكثر المجتمعات تضييقاً على الفرد، لأن إحساس الفرد بالمسئولية والقانون صارم، وهذا يعني أنه لا توجد رفاهية من دون حدود ولا توجد حرية من دون حدود, وماذا يحدث للبشر حين يتحقق لهم مجتمع الرفاهية الكاملة، والحرية المحدودة بالالتزام تجاه الآخرين? وما هي صورة هذا المجتمع". ولا بد من الإشارة هنا، أنّ رواية صبري تقدم قراءة مغايرة لما هو شائع في عالم الخيال العلمي التي تغلب عليه صورة المجتمع المستقبلي كمجتمع ديكتاتوري. لكنّ مجتمع المستقبل الذي رآه موسى في أمريكا احتوى على بوادر مقلقة عبّر عنها في “السيد من حقل السبانخ” وعكست بشكلٍ كبير على تحفظّات دولوز عن مجتمعات السيطرة. فتحول الإنسان إلى مجرد رقم في منظومة إلكترونية هائلة هو إحدى النقاط التي تتناولتها الرواية ويعتبر الناقد الأدبي رمضان بسطاويسي محمد في دراسة له عن الرواية أن "السيد من حقل السبانخ" تطرح السؤال التالي: "ما الذي يمكن أن يحدث للإنسان في الحضارة المعاصرة، بعد أن يكون قد نجح في تحقيق الديمقراطية والعدالة وتلبية الحاجات المادية؟" ويضيف بسطاويسي: "ألا يؤدي هذا إلى نزع القداسة عن الإنسان والطبيعة وهي المحيط الحيوي الذي يعيش فيه؟" وفي مقتطف معبر من الرواية، تصرح شخصيتها الرئيسية هومو: "إن البشر قد أصبحوا متشابهين إلى درجة مقلقة يا دافيد... نسخ متطابقة من طريقة اللبس والغذاء والتفكير والأداء الحياتي اليومي... وكل العقول العامة قد أصبحت أسيرة وغارقة في هذا الفيضان الإعلامي والثقافي الذي يندفع في عقولها من أجهزة الإعلام والثقافة المركزية.. وقد أصبحوا جميعاً يفكرون ويتصرفون حسب الطريقة المطلوبة".الإنسان والآلة، بدلاً من صراع الإنسان والآلة يؤثر تطابق البشر في العالم الرقمي على حالة المرء النفسية، فيشعر بأنّ أيامه بدأت تشبه بعضها البعض وهذا ما يمرّ به السيد في حقل السبانخ، بطل الرواية. يعكس شعور “هومو” بالملل والضجر مخاوف الكثير من الأشخاص الذين أجبروا على الخضوع لسلطان الروتين. من أهم المحاور التي تتناولها القصة هو الصراع الحتمي بين سيطرة الإنسان وسيطرة الآلة والذي يظهر في يومنا هذا في أشكال عدّة كالحديث عن الذكاء الإصطناعي والإنسان الآلي ودورهما في تغيير طبيعة العمل وزيادة نسب البطالة في قطاعات عدّة. فكلّما زادت وتيرة التطور التكنولوجي والمكننة، كلّما زاد قلق البشر على وظائفهم وهذه الظاهرة ليست حديثة. شهد أيلول من هذه السنة اجتماعاً في جامعة هارفرد الأمريكية بين أساتذة وأعضاء شركات مختلفة لمناقشة مستقبل العمل في ضوء التطورات العدّة في عالم الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا. كان انطباع الجلسة النقاشية إيجابياً بشكل عام، حيث اتفق المتحدثون على أنّ الذكاء الاصطناعي سيخلق فرص عمل جديدة تدعو إلى مهارات مختلفة تناسب التقنيات المستخدمة. رغم ذلك، استتنج المشاركون في الجلسة أنّ الوظائف ذات الدخل المحدود ستكون أكثر المجالات تأثراً بذلك. دعت فرانشيسكا روسي، أخصائية علم الأخلاق والذكاء الاصطناعي والمديرة في شركة IBM، لاستبدال فكرة الصراع بين الإنسان والآلة بفكرة أنهما مكملان لبعضهما البعض. حيث شدّدت روسي على أهميّة "التكيّف" في خضم التحولات التي ستخضع لها وظائف عدّة، مؤكدّة أنّ جهوداً تعليمية تقنيّة ستكون ضرورية لتأهيل طلاّب المدارس لمواجهة عالم مهنيّ مبني على الروبوتات. يبدو تفآئل المجتمعون في هارفرد متناقضاً مع رأي صبري موسى في “السيد من حقل السبانخ”، وقد يكون تصور صبري انعكاساً للمناخ العام في العالم العربي في الثمانيات، بينما يقدم التفاؤل في اجتماع هارفرد الحسّ الأمريكي بالسيطرة على المستقبل في ظل التفوق العلمي الذي تتمتع به البلاد اليوم. أكمل القراءة التراث والفردوس الإلكتروني؟ ولكن التناقض أيضاً يكشف هاجساً مشروعاً: فكيف يتحقق ذلك التوازن الصعب بين ما تنشده البشرية من فضاءات التقدم والتطور العلمي وبين تمسكها بتاريخها وطبيعتها؟ تلك هي إحدى أهم المعضلات التي تطرحها الرواية، وربما هي السؤال الأساسي الذي تحاول أن تجد له إجابة. يقول الناقد والكاتب طلعت رضوان لرصيف22 أن هدف الرواية هو ترسيخ قيمة الجدل المستمر داخل الإنسان بين تراث الماضى والتقدم العلمي. ومن هنا نجد أن بطل الرواية “هومو” بطل رومانسي، مغرم بالتاريخ والحفريات ويفكر في رفات أجداده المحفوظة في مقابر فضائية، ولعلّ الحلقة المفقودة التي توافق بين التطور العلمي والماضي تتمثل هنا في تمسّك “هومو” بالذاكرة وإصراره على إحيائها. يرى الدكتور عادل ضرغام في دراسة منشورة له أن صبري موسى بنى روايته على فكرة لها نوع من المشروعية، تتمثل في أن ذاكرة الإنسان تظل –بالرغم من مرور آلاف السنوات- محتفظة بشكل جمعي بماضيها البعيد. هذه الذاكرة الجمعية للبشرية، بحسب ضرغام، لديها حنين دائم إلى الماضي، وبالتالي فهي في الرواية يكون لها "تأثيرها المباشر في انقطاع البشر عن سيرهم وحركتهم وفق الخط المرسوم من قبل الإدارة العليا للحياة الفضائية، التي تظهر، وكأنها نموذجية في التخلص من الأمراض القديمة".قصة إنسانية لـ"الخروج" في القرن الـ24 تتابع الرواية تجربة هومو، وقراره باستكشاف إمكانيات خارج ما هو مرسوم له، فيغادر عالمه، وقصته دون شك تذكرنا بقصص "الخروج"، ولكن تجربة هومو تعيده إلى عالمه، والنهاية تدق جرس إنذار عن مستقبل الإنسان، فرحلة "هومو" في الخروج فشلت ويالرغم من أنه عاد إلى عالمه، إلا أن الأمور لا تعود إلى مجاريها، فالنظام لا يرحب بعودته، ويرفض دخوله من جديد، وهكذا تتركنا الرواية بثنائية الرفض والفشل. وعنها يقول هومو: "نحن حبيسو مجرتنا يا ليالي، وكلما زاد تقدمنا في الكون فقدنا إحساسنا بذواتنا بعد إدراكنا لضآلتنا... وكلما ازددنا بعداً في رحلتنا ازدادت حاجتنا إلى ابتكار أدوات وآلات أقوى منا... إننا قد نخلق كائنات تتفوق علينا... وأخشى ما أخشاه أن نكون قد أصبحنا فعلاً عبيداً لهذه الآلات التي خلقناها". ويعلق الباحث عمر شهريار بقوله إن "الرواية تضعنا بشكل مباشر مع فردوس عصر العسل، الفردوس الإلكتروني، وتختزن في داخلها، بشكل رهيف، الموروث الديني عن الجنة والخروج، وكأننا أمام آدم الأخير، الذي يقرر بمحض إرادته الخروج من النعيم الذي يحيا داخله، سيراً وراء رغبته في الاكتشاف".بين اليوتوبيا والخيال العلمي تحتفل رواية “السيد من حقل السبانخ” بعقدها الثالث، منذ إصدارها، لكنّ محاورها تبقى متعلقة بشكلٍ وثيق بواقعنا الحالي. تستند الرواية إلى دراما إنسانية فريدة، في ما يصنف بأدب المستقبل أو الكتابات التنبؤية، وتحتل مكانة عالية في الأدب العربي. هناك من يعتبر الرواية من فئة الخيال العلمي لأنّها تقع في القرن الرابع والعشرين وتصف عالماً مستقبلياً ممكناً بفضل تطور العلم. ولكن يرى عدد من النقاد كطلعت رضوان وبسطاويسي أنّ الرواية هي أقرب لليوتوبيا في كيفية رؤيتها للمستقبل وبأبعادها الفلسفية. كيف سنعيش مستقبلنا في القرن الـ24؟ هل سيحتل الرجل الآلي قطاع العمل وتصبح البطالة آفة العصر؟ هل سيبقى الإنسان متعلقاً بذكرى جماعية لزمن مضى؟ هل سيبقى المرء رقماً في مجتمع رقمي أم هل سيكون هناك احتمالات أخرى؟ ربما حان الوقت لقرآة رواية صبري موسى من جديد. اقرأ أيضاًأدب الخيال العلمي العربي مشروع مؤجل"مخطوطة 5229" دار جديدة لمحبي الخيال العلمي والفنتازيا"لا أخشى الجرأة": عن تابو الجنس الذي عرّته الرواية السعودية كلمات مفتاحية التكنولوجيا الخيال العلمي الرواية الفلسفة المستقبل التعليقات

مشاركة :