قال أبو عبدالرحمن: أتوقَّع من قارئ هذه المداخلة أن يقول بعد فراغه مِن القراءة: (ما علاقةُ أحضان الطبيعة بالتباريح؟)؛ لهذا أَسْبِقُ هواجسَه وأقول: بأن هذا الموضوع ليس مِن صُلْب التباريح وحسب، بل هو من صلب وعُمْق (تباريح التباريح)؛ لأنني ذكرتُ في كثير من كتاباتي بأن عُقْدَتي الخانقة -وتلك أحرُّ التباريح- أنني لا أُجيد لغة ثانية، وأن غَبْن الجهل يقبض عِنان الطموح، وأنني مفطور على حب الاستطلاع غير الفضولي.. وأنني وجدت في التراث البشري جمالاً مجنِّحاً، وعلماً طرياً، وفكراً يزيد مِن يقظة العقل.. وأنني أعيش فطرةً ودِربة رومانسيةً ممتعةً من نعيم الدنيا، مُغَذِّيةً النفسَ بزوال الصَّدأ، مُنَشِّطة العقل كما ينشط البدن بالماء ولُقيمات يُقِمن الصلب.. وهي رومانسية حقيقية من ممارسة أهل الفكر والعلم والثقافة الواسعة، وليست هي الرومانسية التي يتجنَّى عليها الماركسيون والحداثيون، ولا هي بالرومانسية الادِّعائية التي يمارسها الهاملون الجاعلون الغربةَ ضربةَ لازب في كل لحظة من حياتهم.. ومِن عُقْدتي المذكورة آنفاً لم استسلم لإحباط (غبن الجهل)، بل ملأت مكتبتي خلالَ أدوارها (فهي يَغُصُّ بها الرَّحْبُ والردب من الدار تارة، ثم أقلِّصها بالبيع بعد التقميش منها؛ لحاجة مادية أو توسعةً للمنزل، ثم أستعيد غيرها.. وهكذا.. وهكذا) بالكتب المترجمة، وبكتب المصطلحات في كل حقل وفنٍّ، وفيها ما لا أحتاج إليه إلا مرةً في السنة أو أكثر من السنة؛ فمن هذه الموارد، ومن النصوص التي تُرْجِمَتْ لي على حسابي، ومن تعاون بعض الأحباب معي في معرفة اشتقاق بعض المصطلحات، ومن شخصيتي العلمية التي كوَّنها لي ربي خلالَ عقود من القراءة المتواصلة عن اتجاهات المذاهب الفلسفية والأدبية والفقهية، وعن معرفة الفوارق والعلاقات بينها: استعنتُ بالله في تفهُّمِ النصوص الفلسفية والأدبية وتذوُّق جمالياتها، وآثرتُ الابتداء بالنص الذي تُرجم أكثر من مرة من مترجمين متعدِّدين؛ فسهل عليَّ فهمُ ما ليس له إلا ترجمة واحدة وصار عندي بحمد الله ملكةُ الفهم والتذوق بسعةٍ قد لا تحصل لذي تخصُّص واحد أو تخصُّصين وإن كان يجيد لغة ثانيةً؛ وبالله ثم بهذا التوسع أحاط الرموزُ من علماء المسلمين ومثقفيهم بالثقافة الإنسانية وإن كان أحدهم يجيد لغة ثانية (مع أن لغة ثانية لا تنوب عن لغات العالم كلها)؛ فمنهم مَن لغته الثانية فارسية، ومنهم مَن لغته الثانية التركية، وثالثٌ لغته الثانية الأمازيغية كالجاحظ وابن حزم وابن تيمية مع اختلاف مداركهم في الفهم، وابن حزم أحظاهم بالفهم الدقيق لجزئيات الثقافات والمذاهب الفلسفية واختلاف الأديان من كتب أهل الأديان.. وقل مثل ذلك عن المتأخرين الذين استولوا على التراث الإنساني مِمَّن يجيد لغة ثانية من اللغات الحيَّة، وفرَّغوا أعمارهم لموسوعات قد يعجز عنها بذلك الاستيعاب عددٌ من الأفراد كالموسوعة الحضارية لول ديورانت.. ومثال ذلك الموسوعتان التاريخيتان للدكتور جواد علي. قال أبو عبدالرحمن: أيها المُـثَقَّف غير العادي: إن (وليم ورد زورث) المفكر الأديب الفنان (1770 - 1850م) يَعِظُكَ، وأنت لا تشكُّ في عُمْق تجرِبتِه وهو ابن ثمانين عاماً تزداد ثلاثة أعوام بالهجري.. يعظك في مقطوعته (الوضع الأسمى) كما في كتاب مُختارات من الشعر الرومانتيكي الإنجليزي باختيار وتعليق الدكتور عبدالوهاب المسيري ومحمد علي زيد (ص 129- المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت عام 1979م).. يَعِظُكَ بأن تُلْقي الكتاب؛ كي لا يَحْدَوْدِب ظهرُك، ولكي لا تظلَّ في عناء رتيب لا ينتهي.. وما يفوت من العناء والضَّنى في الانحناء على الكتاب مَـخْلوف بمتعةٍ ليس فيها معاناة، وهي تمنحك العلمَ والشفافية.. إنها إمتاع البصر بالضياء الرقيق من فوق الجبل ينشر صُفْرَة الغُروب على الحقول الخضراء.. وَصَفَ الصفرةَ بالعذوبة تجوُّزاً؛ لأن الصفرة خيط ذهبي؛ وهو من المُبْصَرات، والجمال حقيقة في المرئيِّ والمَسْموع، ووجه المجاز أن العذوبة تثيرُ هناءً ولذةً في النفس كالجمال أَثَرُهُ في هناء النفس كأثر لذة العذوبة، ووصَفَ الصفرة بأنها إمتاعُ السمع بأنغام عصفور الغابة في الدُّجَى؛ فهل هاتان المتعتان تُغنيانِ عن (الكتاب)؟.. يزعم (ورد زورث) أن في أنغام العصفور حكمةً تفوق ما في الكتب، والعصفور واعظ ليس بالهيِّن.. ثم يمضي السياق عن (الطبيعة) التي هي أجلُّ من الكتاب عنده في التعليم بهذا النَّسَق غير المُفسَّر: (تقدم في نور الأشياء. ولتكن الطبيعة مُعلِّمَك. إن لها عالماً من الثروة الميسورة. يُبارك عقولنا وقلوبنا. حكمة تِلقائية تَنَفُّسها العافية. حقيقةٌ يتنفَّسها البشر. حافزٌ واحد من غابة في الربيع. قد يُعَلِّمُكَ عن الشر. وعن الشر والخير. أكثر مما يستطيع الحكماء أجمعون. ما أبدع المعرفة التي تأتي بها الطبيعة. إن عقولَنا المتطفِّلة. تُشَوِّه أشكال الأشياء البديعة. إننا نقتل لنشرح. كفانا علماً وفناً. اِطْوِ تلك الصفحات العميقة. وتقدَّم معي. بفؤاد يرتقب ويستجيب). قال أبو عبدالرحمن: هذه المقطوعة ص 130، والطبيعة التي يعني (ورد زورث) تشمل الجماد، وأحياءَ النبات، وبعض أحياء الحيوان ولا سيما الطير، وبعض الأحياء من الجنس البشري سماعاً ونظراً.. وهذا الشمول خاص بالظاهرة الجمالية، مشروط بالالتحام والتواجد بين هذين بالقيد الجمالي.. وبغير القيد الجمالي فالطبيعة أعم من ذلك، والكون كله -أي ما سوى الله من خلقه- مما هو من عالم الشهادة: هو مصدر الإحساس البسيط (المعرفة)، وهو مصدر الإحساس المُركَّب (الخبرة التجريبية) الذي هو العلم بما تشاهده، والاستشراف للعلم بشيء مما ظهرت آثاره ولم تظهر أعيانه؛ فالكون ليس هو حواسك، ولا هو عقلك.. مع أن الحس والعقل من أجزاء الكون، ولكنَّ هذا الجزء منسوب إليك؛ لأنه منحةٌ من الله لك، بل معرفتُك وعِلْمُكَ اكتساب حواسك الظاهرة والباطنة، وعقلك؛ فمواهبك كاسبة؛ لأنها أداة معرفتك وعلمك، والمشهودُ من الكون مصدر اكتسابك؛ فكل ما أدركته فتصوُّره مُكْتسب من العالم المشهود؛ فالطبيعة في عمومها الجمالي، والمشهود من الكون في عمومه الشامل الجمالي لا يمنحك إدراك المعرفة والعلم؛ وإنما تأخذ منها بالإدراك معروفاً ومعلوماً، ولا سبيل لتصوُّر العقل معروفاً إلا بالحس الظاهر أو الباطن، ولا سبيل لتصوُّر معلوم بالاستنباط أو الخِبْرة إلا بحضور العقل ووعيه بما اكتسبه من العالم المشهود، ولا وجود لأي شيء في العقل لم تكن جزئياته مكتسبة بإدراك العقل من الكون المشهود؛ وبهذا تعلم بطلان القاعدة الخرقاء العامة من قولهم: (موجود في الأذهان غير موجود في الأعيان).. و(ورد زورث) مُفَكِّرٌ عاكف على الكتاب، عالم أن الطبيعة مصدرُ معرفةِ وعلم وإحساس جمالٍ أو قُبح، وليست تمنحك ذلك؛ وإنما المنحة من إدراكك الذي أعطاك الله إياه من الفكر والحِسِّ والمشاعر، ولن تُفيدَ أنت معرفةً أو علماً أو لذَّة جمالٍ أو تنغيص قبح إلا بمقدار ما في أدوات إدراكك مِن القُوى فطرةً أو دِربة.. و(ورد زورث) يعلم هذا كله، ولكنه استخدم أسلوب المجاز -كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله- في جعله مصادر الجمال علماً؛ ليغريك بالاستمتاع بمجالي الجمال، وليقطع الحجة دون الثائرين على الرومانسية، وليذكِّر بعقبَى التمتع بالجمال إحساساً وإدراكاً؛ فمتعتُك بمجرد الطبيعة بلا إدراك يُعطي موهبتَك نشاطاً لمعاناة أمثال الكتاب الذي أوصاك بطرحِه، وإحساسك بالجمال الذي هو إدراككَ أنت: يمنح تعبيرك إيقاعاً لذيذاً، ويمنح عقلك خيالاً عبقرياً يُركِّب صوراً ورموزاً تُعبِّر بإيحائها عن حقائق ودقائق فكرية وعِلمية.. والمتعتان اللتان يزعم ورد زورث أنهما تُغنيان عن كتاب من باب عادة الرومانسيين في كثرة التهويل والمجاز؛ فالكتاب هو الذي يسجِّل متعة الطبيعة ويُقنِّنها بلغة البيان العليا (لغة الأدب)، وهو الذي يعيد ذكرى المتعة متجدِّدة على مدى الأعوام.. وفي قصيدة له قالها عام 1798م ص 131 - 138 إشارةٌ إلى نقصِ استمتاع الكفيف بجمال الطبيعة وتعليمها، ومن اللفتات في هذه القصيدة قوله: (وحيثما كنت وحيداً في حجرتي.. أو وسط ضوضاء المدن الصاخبة. وفي ساعات الملل والقنوط. كانت تمنحني أحاسيسَ عذبة. تسري في دمائي وفي قلبي. بل وتصل إلى عقلي الصافي ذاته (يريد نفسه، وتُرجمت الذات بهذا المعنى حسب الخطأ الشائع). لتعيد لي الهدوء والسكينة. كانت تُذكِّرني.. أيضاً بما نسيتُ من بهجة. بهجة ليس أثرها بالسطحي أو التافه. على أفضل جزء من.. حياة الإنسان الخيِّر. ذلك الذي يضم ذكرى أفعاله.. الصغيرة المنسية بلا اسم. والتي تنم عن العطف والحب. وما أحسبني إلا مديناً لها. أيضاً بنعمة أكثر تسامياً. في هذا الإحساس المبارك.. حينما تخف وطأة. عبءِ الأسرار الذي يرهق كاهلنا. وطأةُ ثِقَل العالم العصي على الفهم). قال أبو عبدالرحمن: هذا المَقْطع من بواكير البرم بالمدينة الصاخبة التي أسرف فيها الحداثيون المسرفون في هجاء الرومانسية: الضوضاء، والصَّخب، وضرورة العمل الثقافي والعلمي والفكري الذي يعزل ذا المعاناة في حجرته وحيداً.. ولكنَّ هذا الملل والقنوط يبعث ذكرياته مع ليلاه وأحضان الطبيعة وما تختزنه من ذكريات عذبة في المدينة الصاخبة، وهي ذكريات ليس أثرها سطحياً بلا عمق، ولا تافهاً لا قيمة له؛ بل عُمْقها وقيمتها أنها انتقالٌ من عذوبة الذِّكريات إلى جمال ومنفعة تدوين (المُذكِّرات) وإن كانت صغيرة لا اسم لها.. أي ليست أهلاً لأن يكون لها عنوان يُبْرِز خطرها، وهذا الأمر لفت إليه الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى قبله بقرون؛ فذكر في مطلع كتابه (مداواة النفوس) ضرورةَ التهمُّم بكل ما مرَّ في حياة الإنسان، وأن ذلك عظيم النفع.. وهذا حق؛ لأن تجربة الفرد -سواءٌ أكان مرموقاً، أو كان عادياً إذا أوتي ملكة الفكر والبيان- جُزءٌ من التجرِبةِ البشرية، ورؤية فاحصة لخبرةِ أبناء جيله وواقعهم وواقع الزمان والمكان؛ فلا يستغني عن ذلك مؤرخ، ولا مُعْتبر، ولا ذو تخصُّص في علمَي النفس والاجتماع.. فإن كان صاحب المذكرات زعيماً، أو في عملٍ قيادي، أو عالماً فنَّاناً لذيذ الإيقاع: فذلك تاريخٌ عامٌّ للعصر، وتربيةٌ أعم في العلوم والثقافات، وتربيةٌ أخَصُّ في استجلاء مجالي الجمال الفني والجلال الخلقي.. وفي المذكِّرات تتعانق الأفراح والأتراح؛ فَمَعْلَمٌ واحد من معالم الطبيعة -وهو جريان الوادي- والمُذَكِّرات والذِّكْرياتُ تجعلان قَلْبَ (ورد زورث) وروحه تهفوان إلى لذَّة الماضي وما اقترن بها من ومضات فكرٍ كادت تختفي (وهذا من عناصر ضرورة تدوين المُذَكِّرات)؛ لأنها (راهنة) أي وقتية، وعليها غِشاوةٌ تجلب العُتمةَ متجوزاً بها عن عدم الوضوح الكامل، وفيها حيرة وحزن لعل دافعها الأحاسيس عند الفراق -والفراق عند العُشَّاق أليم وإن كان مُؤقتاً-.. وعلى الرغم من هذه المُنغِّصات فإنها في ساعة الذِّكرِ تملأ العقل وتستجيشه فكراً وجمالاً؛ فَتَعْمُرُ الذِّكرياتُ والمُذكِّراتُ بذلك، ويُضيئ الأمل؛ فكيف يكون الرومانسي مغترباً هارباً متقاعداً مُنطوياً على نفسه وهو يُقدِّمُ علمه وفكره وخبْرَته وإيقاعه وكدحه بمثل هذا العطاء عند (ورد زورث)؟!.. ثم قال: k k k (وننظر بعين.. تستمد السكينة من قوة التناسق.. في الكون وقوة الفرح العميقة. فنبصر الحياة في جوهر الأشياء. وبين الأشكال المتعددة التي بيديها.. ضوء النهار العاري من البهجة. وحينما تثقل الحركة.. الملهوفة بلا جدوى وحمى العالم. دقات قلبي كم من مرة اتجهت بروحي. إليك يا نهر الوادي يا من تجوب الغابات. وتجري بينها كم من مرة اتجهتُ بروحي إليك. والآن بومضات فكر كادت تخبو جذوته. وبلمحات يَقِظَةٍ راهنة معتمة.. وبشيء من حيرة محزونة. تدب الحياة في صفحة العقل مرة أخرى. وبينما أقف هنا لا يغمرني إحساس. بالمتعة الراهنة فحسب.. بل تراودني أفكار عذبة. أن في هذه اللحظة ذاتها حياة وزاداً . للأعوام المقبلة ولذا.. تجدني أجسر على الأمل رغم أني تغيرت ولا ريب عما كُنْتُه). قال أبو عبدالرحمن: في القصيدة السابقة (الوضع الأسمى) استعرضتُ ذلك السياق، وهو نثر عادي، وليس شعراً جمالياً لامسته ريشة مُتَرْجِمٍ شاعر فنان؛ وإنما أريد استجلاء العلاقة بين جمال الطبيعة وسُمُوِّ العلم والمعرفة لعلِّي أجد شيئاً واقعياً مما هو في الخيال الوردزورثي.. ولا أنكر أن صورة الغروب المنتشرة على الحقول الخضراء صورة جميلة، ولكنَّ ذلك نادر في القصيدة، وليس وراء الصورة إيحاء، بل هي رسم فوتوغرافي؛ وإنما المراد أنْ يُوْجِد حيلاً فكرية خيالية أعرف بها كيف كان العصفور واعظاً غيرَ هَيِّن، وكيف كانت الطبيعةُ ثروة ميسورة، وكيف كانت حكمة تلقائية، مع بيان دلالة (نقتل لنشـرح) مع أن المعمول به عند المفكِّر الفنان أنه يُرضي حاسة الجمال بالاستمتاع، ويبقى رهيناً لإلحاح الفكر الذي يريد العلم بما في الأعماق، فيأخذ عَيِّنة من أعيان الطبيعة الثرية المتجددة؛ فيشـرح؛ فيكون قَتْلُه هو ذهابَ ظاهرها الجمالي من أجل ما في باطنها، ولم يكن ذلك إلا بعد أن أسبغ على حاسة الجمال إيحاءَها وأشبعها من جمال شكلها، وأمتع حاسة الشم بعبيرها.. وأما إهانة جمال الزهور فهو ما نهتْ عنه حِكمة القول السائر في الريحانة: (شُمَّها ولا تَفْركها)؛ فتلك الحيل التي أسلفتها هي التي تجعل الأديب العربي يُوَصِّلها إلى بني قومه بغناء فكري إما بمقالةٍ فنية، وإما برقصاتٍ شعرية ذات أنغام مكثَّفة.. وليست هذه القصيدة في سياق القصيدة الأخرى عن زيارته الوادي، بل هي عن متعتِهِ بحضور ليلاه؛ بدلالة المعروف من سياق الرومانسيين أن استمتاعهم بالطبيعة مشـروط باقتران العاشقَين الوامِقَين؛ إذْ جاء وحيداً ليستعيد الذكرى.. لقد جاء (ورد زورث) زائراً شواطئ نهر الوادي بعد ذكرى خمسة أعوام.. إنه يستعيد الذكرى عن غياب العاشق الرومانسيِّ بين مفاتن ليلاه ومفاتن الطبيعة؛ فجاء في الكهولة يستجلي ذكرياته من الطبيعة نفسها؛ ولهذا وصف الطبيعة بالعُزْلة؛ لتشاركه مرارةَ خمسة أعوام غادر فيها هو وليلاه هذا الجمال الطبيعي، والطبيعة دائماً شريكةُ الرومانسي في مشاعره.. قال في أول قصيدته: (أبصـرْ هذه الصخورَ السامقةَ النبيلةَ التي تُضفي على هذا المكانِ المُوحش المنعزل. إحساساً أعمق بالعزلة وتصل. ما بين الأرض وسكون السماء). حتى السماء المظلِّة هذه الصخرة ساكنةٌ سُكونَ العُزْلةِ، مشاركةٌ الشاعرَ عُزلَتَه خمسة أعوام، وليس معه من المُتْعة سوى ذكرياته مع ليلاه في هذا الوادي قبل الخمسة أعوام؛ ولهذا قال: (ها قد جاء اليوم الذي.. أجد فيه الراحة مرة أخرى.. .. إلخ).. ثم قال: (كل هذه الأشكال الجميلة طيلة.. ذلك الغياب الطويل.. لم تغب عن بصيرتي.. كما يغيب مرأى الطبيعة عن عين الكفيف). مع أن للكفيف عوضاً كثيراً من الإحساس بجمال الطبيعة، وهاهنا فات ورد زورث تهويل الرومانسي بأن الطبيعة تمنح الكفيفَ البصـر، ولولا أنه ذكر عين الكفيف بمقابل بصيرته هو لقلت: إنه يريد عُمْيَ القلوب الذين يفقدون الحس الجمالي ثم قال: k k k (فقد أتتني. هبَّاتٌ أخرى في ظنِّي.. أنها عوضتني عما فقدتُ. تعويضاً سخيفاً فقد تعلمتُ. أن أنظر للطبيعة لا كما كنتُ أفعل. في أيام شبابي. المسلوبة الفكر.. بل كثيراً ما أسمع الآن. موسيقى الإنسانية الهادئة الحزينة. لا خَشِنَـةً ولا صاخبة وإن كانت قادرة. على تطهير النفس وتهذيبها ولقد شعرتُ. بوجودٍ روحيٍّ يقلقني. بما يبعثه في نفسي من فرح الأفكار المتسامية. إحساسٌ سامٍ بشيء يمتزج بصميم الكون. موطنه أشعة الشموس الغاربة. والمحيط الشامل والهواء النابض بالحياة. والسماء الزرقاء وفي عقل الإنسان. إنه حركة وروح تدفع كل الكائنات المفكرة. وكل الأشياء موضع التفكير). قال أبو عبدالرحمن: هاهنا عاد زورث إلى نور الكتاب الذي يحتضن الفكرَ والعلم والحسَّ الجمالي؛ فلا فكر ولا علم إلا من اقتناص الحس بحضور العقل، ولا بقاء لذلك إلا بالله ثم بالكتاب؛ لأن ورد زورث ينعى الرؤية السطحية للطبيعة في أيام شبابه؛ لأنه كان مسلوب الفكر.. ثم ننظر لماذا جمع بين الإشعاع والغروب، والهدوء والحزن، وتطهير النفس، وقلق الروح مع فرح الأفكار السامية.. مع أن الرومانسي غير متشائم؟!.. والجواب أن ورد زورث هاهنا جاء للوادي وهو نصف رومانسي ليس معه إلا ذكرى ليلاه؛ فحين يذكر الإشعاع والفرح فذلك رومانسية الذكرى، وحين يذكر الغروب والقلق فذلك هو غياب النصف الآخر من رومانسيته، وهو حضور ليلاه بعينها، وكل هذا دافعٌ الكائناتِ العاقلةَ إلى التَّفَكُّرِ في المتغيِّرات.. والهدوء الحزين في موسيقى الطبيعة التي جعلها (موسيقى الإنسانية) يعني تمجيد جمال الطبيعة بأنها شريكة الإنسان في أحزانه، ولو استجابوا إلى الترامي في حضنها لتطهرت نفوسهم من شائبة الحزن؛ فكانت حياتهم موسيقى خالصة للجمال والسرور، ولا ريب أن وردزورث استغل الكلمة الدارجة المجازية (الطبيعة مُلْهِمة) أوسع استغلال بهذا السياق الطويل المُمِلِّ بتكراره، ولستُ مُسْتَعْجلاً المُداخلةَ حتى أُنْـهي سياقه؛ فإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله مع أشجانِ (ضرورةِ أن تكون رومانسياً)، والله المستعان، وعليه الاتكال.
مشاركة :