في حي المرج بالقاهرة، أحد أحياء الطبقات الوسطى في مصر، كانت حفصة تُعدُّ شطائر اللحم والتونة لنجلها أحمد، وهو واحدٌ من بين 235 مشجع كرة قدم أُلقِيَ القبضُ عليهم في مباراةٍ أُقيمَت في الإسكندرية في يوليو/تموز الماضي، بينما كانوا يشجعون فريقهم المفضل؛ الزمالك. أحمد، البالغ من العمر 24 عاماً، هو عضوٌ برابطة مشجعي نادي الزمالك المصري المعروفة باسم "ألتراس وايت نايتس"، وهي إحدى رابطتي مشجعي كرة القدم الرئيسيتين في مصر، أما الثانية فهي "ألتراس أهلاوي"، وتشجع فريق الأهلي. وكلا الرابطتين اشتبكتا مراراً مع قوات الشرطة منذ الثورة المصرية 2011. ومن المقرر أن تبدأ محاكمة أحمد، المتهم بالاعتداء على الشرطة والهتاف ضدها أثناء المباراة وحيازة الألعاب النارية، في السادس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وفق ما ذكر موقع البريطاني. قبل المحاكمة أمِلَت حفصة، وهي مُدرِّسة، أن ترشو ضابطاً منخفض الرتبة بالجيش لإدخال الطعام خلسة إلى أحمد في السجن. وفي طريقها إلى السجن الذي يستغرق الوصول له 4 ساعات، استقلت حافلةً صغيرة مزدحمة بالركاب. لم يكن سائق الحافلة قد خرج بعد من المدينة عندما توقف عند حاجزٍ مروري، وسيارات الحكومة، بعضها من طراز مرسيدس وأخرى مدرعة، تمر بجانبه. هنا سألت حفصة السائق عن سبب توقفهم، فأجابها قائلاً إنَّ الرئيس يُكرِّم لاعبي المنتخب الوطني لكرة القدم عقب فوزهم بهدفين مقابل هدف على منتخب الكونغو، والتأهل إلى كأس العالم للمرأة الأولى منذ عام 1990. اندلعت الاحتفالات في جميع أنحاء مصر بعد فوز المنتخب في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول. وللمرة الأولى منذ أعوام، نزل الآلاف للشوارع ذلك اليوم، حتى أنَّهم احتشدوا في ميدان التحرير الذي يملؤه أفراد قوات الأمن. ومنح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أيضاً مليوناً ونصف مليون جنيه مصري لكل لاعب كمكافأة أثناء تكريم المنتخب. وقال السيسي للفريق: "خلال ساعةٍ واحدة، تمكنتم من إسعاد قلوب 100 مليون مصري". لكن وسط تلك الغبطة، كانت فرحة الفوز، وتسييسها مرةً أخرى، مشوبةً بالمرارة بالنسبة للمصريين مثل حفصة، الذين ينتمي أحد أفراد أسرهم أو أصدقائهم إلى قتلى أو معتقلي الألتراس، ممن قُتِلوا أو اُعتُقِلوا في حوادث أخيرة مُتعلقة بكرة القدم. وقالت حفصة: "عشرات الأطفال معتقلون في سجون الجيش، بينما يُكرَّم اللاعبون ويحصلون على جوائز مالية. في أعماق قلبي، لم أتمن لهم الفوز، حتى لا يتشتت الناس عن حقيقة أنَّ هناك 235 طفلاً مسجونون".من روابط متنافسة إلى ثوَّار كانت روابط مشجعي فرق كرة القدم "الألتراس"، التي شُكِّلت عام 2007 قبل ثورة 2011، منفذاً أخف وطأة للمعارضة والشغب تحت راية كرة القدم تتساهل معه السلطات، وكانت تدخل غالباً في صدامٍ مع الشرطة أو بعضها البعض عقب المباريات. إلا أنَّه في عام 2011، باعتبارها واحدةً من أكبر المجموعات الاجتماعية (إذ يُقدَّر عدد مشجعي الألتراس بنحو مليوني شخص)، وكونها انخرطت سابقاً بالفعل في اشتباكاتٍ بالشوارع مع السلطات، اتحدت مجموعات الألتراس، التي كانت ذات يوم تُنافِس بعضها البعض بشراسة، في مسيرةٍ في أحد أكبر مظاهرات الثورة المصرية. ومنذ ذلك الحين، تصاعد العداء بين روابط الألتراس وقوات الأمن. وانخرطت روابط الألتراس في اشتباكاتٍ عديدة مع الشرطة، واتخذت موقفاً مناهضاً للجيش في هتافاتها، وعادةً ما كانت تذكر انتصارها على السلطات وقوات الأمن خلال المظاهرات في تلك الهتافات. ووصلت التوترات بين الطرفين إلى ذروتها في فبراير/شباط عام 2012، عندما انتهت مباراة كرة القدم بين فريقي الأهلي والمصري على استاد بورسعيد بأعمال شغب بين المشجعين، خلَّفت 74 قتيلاً و500 مصاب. واتهم المشجعون شديدو الولاء لروابطهم الجيش والشرطة بالترتيب للفوضى، والسماح للأمور بالتصاعد بذلك الشكل. وحصل 11 مدنياً على أحكامٍ بالإعدام من أصل 73 مُتَّهماً، بينهم تسعة من ضباط الشرطة ومسؤولان اثنان من نادي المصري. وحُكم على ضابطي شرطة بالسجن لمدة خمس سنوات، وحُكِمَ على مسؤولٍ بنادي المصري بالسجن لمدة خمس سنوات كذلك. وفي فبراير/شباط عام 2015، وقُبيل مباراةٍ بالدوري المصري الممتاز بين فريقي الزمالك وإنبي في استاد الدفاع الجوي بالقاهرة، قُتِلَ 20 فرداً من ألتراس وايت نايتس في أثناء تدافع المشجعين بينما كانت قوات الشرطة تُطلِق قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي لتفريقهم. افترض مشجعون كثيرون أنَّ قوات الشرطة استهدفت مشجعي الوايت نايتس عن عمد. في حين ألقت الحكومة باللوم على جماعة الإخوان المسلمين ورابطة وايتس نايتس، بحُجة أنَّهما حرضتا على الواقعة لـ"إفشال" مؤتمر اقتصادي دولي كبير كان من المُقرَّر عقده في مدينة شرم الشيخ في الشهر التالي. وفي نهاية المطاف، لم تُحاكِم السلطات سوى مدنيين في تلك القضية، وحصلوا على أحكامٍ مختلفة، وهو أمرٌ أغضب أعضاء الألتراس، الذين يعتقدون أنَّهم لا يزالون هدفاً لحملة قمعٍ صممتها الدولة بعناية ضد أي كياناتٍ مستقلة. وبعد مرور شهرين، حظرت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة كل نشاطات روابط الألتراس، وصنَّفت المجموعات كمنظماتٍ إرهابية. وأصبح الآن يمكن توجيه اتهاماتٍ للألتراس بـ"تشكيل جماعةٍ على خلاف القانون والانتماء لها"، وهي تسمية تستخدمها السلطة عادةً ضد السجناء السياسيين. وهو ما حدث بعدها بالفعل. "عبيد كرة القدم" ثم في يوليو/تموز من العام الجاري، بعد اشتباكاتٍ بين قوات الجيش ومشجعين في أعقاب مباراةٍ بين الزمالك ونادي الأهلي الليبي في استاد برج العرب بالإسكندرية، أُلقِيَ القبضُ على نحو 260 فرداً من رابطة ألتراس وايت نايتس. يمتلك الجيش ذلك الاستاد، ومن ثم عندما أُرسِلَ 235 شخصاً من المشجعين المعتقلين، بما فيهم أحمد نجلُ حفصة، للتحقيق معهم، كانت وجهتهم هي النيابة العسكرية. ووُجِّهَت لهم اتهاماتٌ بالانضمام إلى جماعة مخالفة للقانون وقيادتها، واستخدام العنف، وترديد هتافاتٍ تُحرِّض على الفتنة، ومقاومة ضباط الشرطة وإهانتهم، والتسبب في إصابتهم. وقال محامٍ في القضية وأفراد أسر المحتجزين لموقع ميدل إيست آي البريطاني إنَّ المحامين الذين يمثلون المشجعين بإمكانهم الاطلاع على الوثائق التي تذكر الاتهامات المحددة الموجهة إلى المشجعين، أو سماعها من الضباط منخفضي الرتبة، لكنَّهم نادراً ما يحصلون على الأوراق الرسمية. والمحامون ممنوعون كذلك من دخول مديرية أمن الإسكندرية، حيثُ يُحتَجَز المشجعون. يقضي أفراد أسر المعتقلين أياماً خارج مبنى المحكمة العسكرية المُحصَّن بشدة وسط مدينة الإسكندرية، من أجل رشوة الضباط لينقلوا الطعام والأدوية إلى أقاربهم. وهنا في هذا المكان قضت دينا، شقيقة أحد أعضاء أولتراس وايت نايتس المسجونين، ليلة مباراة التأهل لكأس العالم. وبينما هي في انتظار تهريب الطعام إلى شقيقها، كانت تستمع إلى المباراة عبر مذياعٍ صغير محمول كان الجنود يجتمعون حوله. عبر الراديو، والبث التلفزيوني الذي كان يتردد صداه في الشوارع، كان بإمكانهم سماع صوت مدحت شلبي، لواء الشرطة السابق ومُعلِّق كرة القدم المصري الشهير والشخصية الإعلامية الموالية للدولة، وهو يعلِّق على المباراة وحماس الجماهير يتَّقد. وقال شلبي: "نريد أن يعود المشجعون إلى الملاعب. لم يهتف أحد ضد الدولة. ولم يستعمل أحد الألعاب النارية. هذا هو الشباب. أقول للناشطين الأغبياء وفيسبوك، هؤلاء هم شباب مصر الذين سيدافعون عن الوطن. إنَّه يوم رائع، علينا أن نشكر شركة العلاقات العامة وشركة أون سبورت ورجل الأعمال أبو هشيمة [المحسوب على الجيش]. علينا أن نقف معاً. مليون تحية للشرطة والجيش العظيمين الذين بدونهم سنكون أمواتاً بلا قبور، ومسافرين بلا أوراق، سنكون مرضى بدونهم". لكنَّ دينا، التي كانت لا تزال تقف خارج السجن، قالت إنَّها لم تستطع تصديق الحماس الشديد الذي اعترى الناس وقت المباراة. وقالت: "بعض الأشخاص يموتون في السجون لأنَّهم كانوا يهتفون لفريقهم. نسي الناس مشاكلهم والفقر والغاز وأسعار المواد الغذائية، وغياب البنية التحتية والخدمات الطبية، وأصبحوا عبيداً لكرة القدم التي لا يستفيد منها مادياً سوى حفنةٍ من الناس في نهاية المطاف". استغلال الفوز لكنَّ وكالات الإعلان، وشركات الإعلام والسياحة، والكيانات الرياضية، وغيرها ممن يربحون بالفعل من كرة القدم، سيحصلون على الكثير من الفوائد مع صعود مصر إلى مونديال روسيا العام المقبل. ويقول عبدالوهاب (29 عاماً)، الذي يعمل لحساب شركة تسويق على الشبكات الاجتماعية في القاهرة: "فكِّر في أي منتج؛ المناديل والمخبوزات والوجبات السريعة، أو الضروريات مثل زيت الطعام والحفاضات. ستهرول وكالات الإعلان وراء هذا الحدث لكسب الكثير من الأموال"، وأضاف أنَّه حتى قبل مباراة التأهل "بدأت شركاتٌ مثل فودافون وأورانج وبيبسي ترويج حملاتٍ إعلامية بملايين الجنيهات. وتابع: "علينا أن نفهم أنَّ كرة القدم بمثابة منجم ذهب للشركات الرأسمالية وتجارة الإعلام الرياضي. وهي مثل الحرب لشركات تصنيع الأسلحة، خاصةً فى دولةٍ من دول العالم الثالث حيثُ لا توزع الثروة بعدالة". هذه النزعة الاستهلاكية، ومعها تسييس اللعبة لامتلاك مؤيدي السيسي والجيش العديد من الأندية الرئيسية في مصر، هي ما يثير اشمئزاز بعض أقارب المعتقلين من المشجعين على حد قولهم. تقول كلمات أغنية "الكورة للجماهير" الخاصة بأولتراس وايت نايتس، والتي تنتقد حال كرة القدم في السنوات الأخيرة: "كورة بلادي المتعة فيها منهوبة.. من حكم السلطة إعلام وصحافة مأجورة.. دوري شركات وفصلوا اللعبة عن الجماهير.. مكسب للمال وحاوطوا اللعبة بالقوانين.. نهب وجياع.. لعيبة بتكسب بالملايين". ومع ذلك، قال أحد المشجعين شديدي الولاء للعبة أنَّه لم يكن متأكداً من أنَّ كل أعضاء الأولتراس استوعبوا الرسالة من وراء الأغنية، بدليل أنَّهم ما زالوا يهتفون للزمالك حتى بعد وفاة زملائهم المشجعين وسجن عشراتٍ آخرين. وقال أبو ماهر، وهو والد أحد أعضاء الأولتراس الذين حُكِمَ عليهم بالسجن بتهمة البلطجة، وحيازة الألعاب النارية، وتدمير الممتلكات العامة بعد تدافع فبراير/شباط 2015، إنَّ أكثر شيءٍ جعله غاضباً هو اللاعبون الذين استمروا في اللعب. وأضاف: "كيف أمكنهم الاستمرار في اللعب دون الضغط على الإدارة للتدخل؟"، لكنَّه اعترف سريعاً بأنَّهم كانوا في موقفٍ صعب. وواصل قائلاً: "أنا لا ألومهم كليةً، لأنَّهم أيضاً جزءٌ من نظام القمع. إذا تحدثوا، سيجدون أنفسهم خارج جنة كرة القدم". وأعرب أبوماهر عن ندمه لتشجيع ابنه على مشاهدة المباريات وتشجيع النادي. وأضاف: "أريد الآن أن أضرب نفسي بالحذاء ألف مرة لفعلتي هذه. أنا أخسر ابني. وكان الشيء الوحيد الذي فعله هو حضور مباراة كرة قدم. أنا سعيدٌ أنَّه لم يمت، لكنَّه يقضي أفضل سنواته في السجن". كبت المعنويات مع زيادة الحملة ضد روابط كرة القدم، لم يعد المشجعون يرون فائدةً في تشجيع نواديهم المفضلة. يقول عبدالوهاب إنَّه توقف عن متابعة كرة القدم تماماً بعد المذبحة التي وقعت في بورسعيد. وأضاف قائلاً: "كانت كارثة بالنسبة لي أن أرى 70 شخصاً يُقتلون بدم بارد، في حين قامت الحكومة بإحضار اثنين من السكان المحليين من بورسعيد للمحاكمة لتهدئة غضب المشجعين. والأفظع من ذلك هو عدم مبالاة اللاعبين بالحادث واستمرارهم في اللعب. في أي بلدٍ محترم يُسحَق فيها 70 شخصاً حتى الموت، يتم على الأقل استجواب المسؤولين الذين كانوا في مناصبهم وقت الحادث. ولكن في مصر، لم تجر محاكمة شرطي واحد أو ضابط جيش من الذين كانوا يحرسون المباراة". وقال مصعب (30 عاماً)، أحد أعضاء أولتراس، إنَّه شاهد مباراة التأهل لكأس العالم وشعر بالسعادة، لكنَّه لم يتمكن من التعبير عن فرحته علانيةً. وقال: "احتفلنا بالمباراة، وقيل إنَّ مصر لديها فريقٌ قوي، بينما نسجن الأشخاص الذين يقودون مجموعات تشجيع كرة القدم ونعذبهم في السجون. لا نستطيع أن نفرح بينما يقبع أصدقاؤنا وراء القضبان". وفي الوقت نفسه قالت دينا: "شقيقي الصغير محمد، كان يقول دائماً إنَّه يريد أن يرى مصر في كأس العالم. لا أعرف كيف هو شعوره تجاه بلاده التي تسجنه الآن، في حين أنَّها تحتفل بالمباراة. لو كنت مكانه، لم أكن لأبالي. هذا البلد لا يستحق الحب والهتاف من أجله".
مشاركة :