كيف تعلل الحلقة الإخوانية الفلسطينية، لشقيقاتها وخاصة الحلقة السورية، تحولها إلى إيران؟ ومن ذا الذي في مقدوره أن يزعم، أن فلسطين كانت معقد رجاء الإخوان قاطبة، وليست موضوعا للديماغوجيا؟العرب عدلي صادق [نُشر في 2017/10/25، العدد: 10792، ص(9)] يصحّ أن تُقرأ الزيارة التي بدأتها قيادة حركة حماس إلى إيران، بمفردات السياسة تعريفا واصطلاحاً. ففضلا عن دوافعها الهادفة إلى احتواء النقاش الداخلي في الحركة، تأخذ هذه الزيارة المنحى التكتلي الـذي هو أحد أنماط عمل السياسة الخارجية، إذ يُصار أن يلجأ طرف، إلى التواصل مع أطراف أخرى تجمعه معها بعض المشتركات، فيتعمد إحياء واستذكار وقائع تضامنية سابقة معه، لكي يستهل تضامنا جديدا. فمن المعلوم أن انتفاضة الشعب السوري من أجل الحرية والعدالة تسببت في جفاء العلاقة الإيرانية مع الإخوان عموماً، ومع حركة حماس بالمحصلة. فلا يختلف اثنان على أن الاختلال في السياسة الداخلية السورية، من حيث كون السياسة الرشيدة ضمانة التوزيع العادل للنفوذ والثروة في المجتمع، كان المحرك الأول لانتفاضة الشعب السوري التي بدأت عفوية وسلمية، قبل أن يتأجج الصراع الذي حرفت القوى الظلامية توجهاته، عندما طرحت نفسها بديلا للنظام، بينما هي أسوأ منه بكثير. كانت الحلقة الفلسطينية من “الإخوان” قد آوت إلى سوريا قبل انفجار الصراع، واعتبر المراقبون ذلك تراجعا كبيرا عن السياسة الأيديولوجية لحلقة تابعة للتنظيم العالمي وتغاضياً عن موقف إخوان سوريا الذين يبادلون النظام عداء بعداء. فقد غلبت، آنذاك، مشتركات حماس مع النظام السوري، لا سيما بعد أن تطابق موقف النظامين من عملية التسوية بموجب اتفاقات أوسلو. لكن انفجار الصراع وتقهقر النظام في السنوات الأولى للصراع، أي قبل أن يزجّ الإيرانيون والروس بثقلهم إلى جانبه؛ كان سبباً في التحول الحمساوي عن التحالف مع دمشق، إذ بات المشهد آنذاك، يحتشد بدلالات واحتمالات سقوط النظام في أيّ لحظة، وهذا ما جعل حماس تسارع إلى الاصطفاف مرة أخرى، في الخندق المناوئ للحكم في سوريا، إنقاذا لماء الوجه. كان التدخل الإيراني في سوريا يُراكم معطياته لصالح النظام، واستمر هذا التراكم يكبر، بجريرة الدواعش وأشباههم، لا سيما وأن الدول حليفة الإخوان كانت سبباً في إضعاف قضية الشعب السوري من خلال مساندتها لمجموعات أصولية أو سلفية جهادية سيئة السمعة ومشبوهة وبالغة الإجرام، وهذا الذي جعل حركة حماس تحسب حسبتها الخاصة مرة أخرى، وتفكر في الانفتاح على إيـران، الحليف الأهـم للنظام الحاكم في دمشـق، بغطاء من استعادة أدبيات العداء لإسرائيل ومساندة المقاومة. على الرغم من ذلك، لم تكن المعطيات السورية وحدها هي التي دفعت حماس إلى استعادة زخم العلاقة مع طهران. فعلى صعيد السياسة الداخلية في حماس نفسها كان ثمة مأزق يتعلق بالقيم والمنطلقات واللغة الجهادية، يُراد الخروج منه وتسويته ولو نظريا. فحماس على الأرض، وخاصة في غزة، توصّلت إلى قناعة بأن المعطيات الميدانية لم تكن تساعد أو لم تعـد تساعد على انطلاق المقاومة من غزة، وحسب غـزة أن تدافع عن نفسها في حال التوغل الإسرائيلي البرّي. بل إن معطيات الحياة نفسها في غزة أقنعت حماس بأن الحكم في القطاع لا يلائمها بعد أن تردّت الأحوال فيه على كل صعيد، واجتمعت العوامل الموضوعية المفروضة من الخارج مع المعطيات الذاتية المتعلقة برداءة الحكم وانهيار المثال الإسلامي المرتجى على أصعدة الرفق بالناس والنزاهة والزهد والرضا الشعبي. ولعل هذا المعطى الأخير هو الذي أنتج الفوارق الظاهرة في الوضع الحمساوي وأتاح لجيل جديد، من الحركة، ينتمي إلى المقاومة، أن يطرح نفسه بقوة، كطليعة جديدة تتكفل بتغيير النهج أو تغيير التوجهات في السياسة الداخلية. ومن المفارقات أن رموز هذا الجيل، عندما فتشوا عن حلفاء طبيعيين، من بيئتهم نفسها، لم يجدوا سوى رفاق النضال المشترك في سنوات انتفاضة الأقصى (2000-2005) إن لم يكن في الانتفاضة الطويلة الأولى قبل قيام السلطة. كان هؤلاء الحلفاء هم أنفسهم الذي كانوا على الطرف الآخر من النزاع الحمساوي-الفتحاوي قبل، وأثناء وبعد، انقضاض حماس وانقلابها على السلطة في غزة. عندئذ طويت مطولات الهجاء الجزافي المُرسل، وشُطبت الصور النمطية التي رافقته، وفيها الشيطنة والتخوين، وهذه كلها التي شكلت المادة التي اعتمدها الإعلام الإخواني لأكثر من عشر سنين. لقد حضرت الحقائق في الجلسات بين قيادة حماس والتيار الفتحاوي الإصلاحي، فجرى استذكار لحظات الوئام والتساند في القتال، وأعيد الاعتبار ضمنيا لجهاز الأمن الوقائي في قطاع غزة، واستذكر الجميع توغل قوات الاحتلال في غزة وصولا إلى شاطئ البحر لكي تقتحم مقر الأمن الوقائي وتدمره وتعلن أنها اكتشفت فيه مصنعا لإنتاج السلاح لكل المقاومين، ثم تقصف كل مقرّاته الأخرى وتدمّرها من الجوّ. كان التفاهم الحمساوي، مع إصلاحيي فتح الوطنيين، سبباً في تحول دراماتيكي على صعيد المصالحة، ظناً من رئيس السلطة، أنه بهذا الخيار، يسجل حركة التفاف ناجحة على تيار الإصلاح الديمقراطي. وكان هذا التحول، قد أدهش قيادة حماس الإخوانية في الخارج، لكن من حضر من هذه القيادة اجتماعات القاهرة الأخيرة فوجئ بالحقائق المناقضة كليا للمادة الإعلامية التي حُقنت بها مجاميع من الموالين ومن الناس العاديين. أغلب الظن أن التسوية المعنوية للمأزق الحمساوي، بين المندهشين والمتطيرين من جهة، والواقعيين في غزة من جهة أخرى، لا سيما بعد أن أصبحت قيادة السلطة الفلسطينية نفسها، بكل المآخذ الثابتة لحماس عليها، طرفا في مشروع المصالحة؛ جاءت على شكل السياق الراغب في التأكيد على الاقتدار السياسي وإظهار قدرة حماس مجتمعة على الجمع بين تثمين العلاقة مع مصر والإصرار عليها، والتأكيد على “أفضال” قطر على الحركة واستمرار العلاقة التقليدية معها، وفتح الآفاق لاستعادة العلاقة مع إيران، وطيّ مرحلة السياسة الأيديولوجية واعتباراتها، والأخذ بناصية البراغماتية، حفاظا على دور حماس في بحر عالي الموج. غير أن هناك أسئلة مهمة ترتفع بمفاعيل الواقع: كيف يمكن لحركة حماس الجمع بين المتناقضات في الإقليم المضطرب، الذي تتعارض فيه الرؤى والمناهج والسياسات؟ وما الذي يمكن لإيران أن تقدّمه، بينما جنس مساعداتها غير ذي صلة بالتنمية أو بالمجتمع؟ وكيف تعلل الحلقة الإخوانية الفلسطينية، لشقيقاتها وخاصة الحلقة السورية تحوّلها إلى إيران؟ ومن ذا الذي في مقدوره أن يزعم أن فلسطين كانت معقد رجاء “الإخوان” قاطبةً، وليست موضوعاً للديماغوجيا؟ كاتب وسياسي فلسطينيعدلي صادق
مشاركة :