تعيد «الدار المصرية - اللبنانية» إصدار «كلاسيكيات الأدب» أو تلك الأعمال والآثار التي تبقى من عصر إلى عصر، يغيب أصحابها ولا تذوي مكانتها. ومن خصوصيّات هذا النوع من الأعمال، التوافق العام على قيمته، مهما اختلف النقّاد في ميولهم وأذواقهم. ولعل من أبرز الأمثلة على الاختلاف والتوافق، أعمال مصطفى لطفي المنفلوطي (1876 – 1924) الذي قُرأ في أوائل عطائه وأحبه الناس، ثم أخذوا يرون فيها تخلفا عن الأساليب المعاصرة وتجمدا في نحت الألفاظ والإصرار على السجع وعدم القدرة (أو الاهتمام) على البحث. كيف يمكن أن تقرأ «النظرات» اليوم؟ قرأت المنفلوطي فتى عندما كنت رومانسيا مثله، ومثله مليئا بالأسى وأشعر أن وظيفة اللغة الوحيدة هي التعبير عن الأحزان. ومع العمر ابتعدت عنه وصار بعيدا عني. ولم أعد أرى في المرحلة الرومانسية (العربية) تجاوبا أو تماثلا مع ما طرأ من ثقافات وتأثيرات. وحتى الأعمال التي ترجمها المنفلوطي عن الفرنسية لم تعد رائجة في أمهادها، مع العلم أنه عرَّبها على طريقته، مسرفا في غمرها بالمفردات التي يملك منها ما يُسحر وما يُمل. وهذا، في أي حال، ما أخذه عليه معاصروه الذين حرموه في نقدهم ونفورهم من مكانة أكثر استحقاقا في آداب مصر وعصر النهضة ومرحلة سعد زغلول، الذي أحبه وأحاطه بالرعاية وإن تكن تلك الرعاية لا تكفي لعيش هانئ. لعلك تعثر اليوم في «النظرات» على مهمة جديدة للفتى اللغوي الذي تمتّع به المنفلوطي، يوم كان ذلك غاية ووسيلة وسباقا عند الكتّاب. تصلح أعمال المنفلوطي نوعا من قاموس المفردات والمصطلحات والتعابير في زمن تقلَّصت فيه اللغة وافتقر الكتاب. ويحسُن بالصحافيين الكبار قبل الناشئين، أن يدرسوا المنفلوطي ليعرفوا أن اللغة كنز لم يلتفتوا إليه ولا يعرفون جواهره البسيطة، على الرغم من أنهم يعيشون بها وفيها ومنها. إليك هذا النموذج: «... بل كل ما كان من أمري أنني كنت امرأ أحب الجمال وأفتتن به كلما رأيته في صورة الإنسان أو مطلع البدر، أو مغرب الشمس، أو هجعة الليل، أو يقظة الفجر، أو قمم الجبال، أو سفوح التلال، أو شواطئ الأنهار، أو أمواج البحار، أو نغمة الغناء، أو رنة الحداء، أو مجتمع الأطيار، أو منتثر الأزهار، أو رقّة الحس، أو عذوبة النفس، أو بيت الشعر، أو قطعة النثر.. فقد كنت أرى الناس فرأيت نفوسهم، وأرى الجمال فرأيت لبه وجوهره، وأرى الخير فرأيت حسنه، وأرى الشر فرأيت قبحه». يا سلام يا معلم!
مشاركة :