نشرت مجلة «الاثنين» فى عددها الخاص رقم 404 بتاريخ مارس عام 1942، تقريراً يحمل عنوانًا «صحفيون على المشرحة» بقلم عباس محمود العقاد، كشف فيه الكاتب الراحل أن محرر المجلة طلب منه أن يكتب رأيه فى طائفة مختارة من الصحفيين، فسأل نفسه: «لم اختارنى؟ يا ترى لإبداء الرأى فى أولئك الزملاء الأعزاء وغير الأعزاء؟ لماذا يسألني رأيي فى الصحفيين، وأنا وهم أهل بلد ودين؟ يجوز أنه قد سأل غيرى كذلك! ويجوز أنه سألني وحدى لأننى أنا وحدى الكاتب الذى يعد صحفيًا وغير صحفى فى وقت واحد. إذا لم تخنى الذاكرة فأنسى بعض الزملاء». استمر «العقاد» في حيرته، إلا أنه قرر في النهاية أن يدون رأيه في عدد من الصحفيين، قائلا: «على كل حال قد سئلت، وعلى كل حال سأجيب، وإليه الجواب». ونستعرض في التقرير التالي مقال عباس العقاد الذي نشره تحت عنوان «صحفيون على المشرحة». 9. جبرائيل تقلا باشا رجل تلقاه فى الطريق أو فى مجلس من مجالس السمر، فيخيل إليك انه قد خلق لحديث الصالون. ويستطرد الكلام إلى السياسة والشؤون العامة، فإذا بسمير الأندية من أنفذ الناس بصراً فى سياسة مصر وفى السياسة العالمية على الإجمال، وإذا بك مع رجل يجمع «الدبلوماسية» من طرفيها المهمين: لباقة الحديث والمقابلة مع حسن التصرف ودقة الفهم للمواقف المشتبكة والعقد الخفية. تستغرب وأنت تكلمه كيف يكون هذا الرجل الذى يبدو لك أنه قليل الاكتراث صاحب أنجح الصحف فى البلاد العربية، وصاحب العمل الذى يحتاج نجاحه إلى استجماع كل اكتراث مستطاع، لكن الذين يعرفونه يعرفون له خصلتين اثنتين تكفيان لإنجاح أكبر الأعمال، وفيهما كل التفسير الضرورى لنجاح صحيفة «الأهرام». إحدى الخصلتين: أنه لا يرضى أن يسبق القطار الذى بعده بأقل من عشر محطات، فإذا كانت «الأهرام» فى هذه المحطة فعد عشر محطات وراءها حتى ترى الصحيفة التالية لها فى المكانة والانتشار، وقد يكلفه هذا السبق نفقات سنة فى شهر واحد، ولكنك إذا حسبت السنين كلها على طولها، وجدته هو الكاسب مهما بلغ من ضخامة تلك النفقات، ويخيل إلى أنه هو صاحب الصحيفة الوحيد الذى تغريه زيادة الرواج بزيادة الإنفاق، وقد تكون زيادة الرواج عند أناس سببًا للكسل والاطمئنان ونقص النفقات. أما الخصلة الثانية: فهى المعاملة الحسنة لشركائه فى العمل داخل الصحيفة وخارجها، فالموظف فى «الأهرام» مضمون الحقوق بغير مطالبة، وكذلك معاملوها وأصحاب العلاقات المصلحية بتحريرها وإدارتها. 8. أنطون الجميل بك معاون «جبرائيل تقلا» الأكبر، أنطون الجميل، رجل كفؤ على استواء فى الكفاءة لجميع أعماله كأنما يختار كفاءته بيديه وبالمقدار الذى يريده ويراه لازما لإتقان عمله، فكفاءته فى مجلس الشيوخ، مثل كفاءته فى الوظيفة الحكومية، مثل كفاءته فى الأدب مثل كفاءته فى الصحافة، كفاءة الكفاية والإتقان، ولا حاجة معها إلى بهرج كثير ولا اطناب يصدع الأذان. عشر دقائق معه فى مكتبه، تريك أنه من أصبر خلق الله على خلق الله: الزائرون المرهقون، والمتحدثون بالتليفون، والموظفون الذاهبون الآيبون بالأوراق، وطالبو الحديث على انفراد، ومواعيد الصحيفة التى لا تقبل التأخير، ويوم بعد يوم وليلة بعد ليلة على هذا المنوال، ثم يجيب الدعوات ويحضر لجان البرلمان، ويكتب التقارير ويرأس الجماعات! منظر يرى ويستنفذ الصبر، فلا أطيق أن أطيل وأنا أراه، خسره الأدب وربحته الصحافة، واعتقادي أن العمل الذى يشتغل به فى حينه رابح على كل حال. 7. خليل ثابت بك أقدر الكاتبين عندنا فى الشؤون الحربية والمسائل العالمية، وقدرته فى شؤون الاقتصاد التى يباشرها لا تقل عن قدرته فى هذا الباب، ما يكتبه عن المعارك وأطوار السياسة يضارع أحسن ما يكتبه المراسلون الحربيون فى الصحف الأوروبية الكبرى، وإذا كتب خليل ثابت بك وكتب «ليدل هارت» مثلا، فغاية الفرق بينهما أن «ليدل هارت» صاحب مذهب فى العلوم العسكرية يتقدم به القواد والنقاد، وأن خليل ثابت بك ليس له هذا التخصص فى الموضوع، أما وصف المعارك والتطلع إلى عواقبها فالفرق بينهما فيه يسير، وقد يكون الرجحان فيه للأخير فى بعض الأحيان. أسلوبه يخيل إليك أنه ينقل من الجبرتى وابن خلدون، لأنه يبدأ المقالة ويختتمها بغير فاصل واحد من الفواصل التى نستخدمها فى الكتابة العصرية والطباعة الحديثة، وتعبيره مع هذا فيه قصد الأسلوب الحديث، وإعراضه عن الحواشى والذيول. تراه يكتب ويترجم ويصحح بين الصفافين والعمال فى المطبعة، فتحسب أنه آلة صحفية تدار بمشيئة غيرها، ومن العسير عليك أن تعثر على نموذج أخر يدرسه المخترع الذى يريد أن ينشىء لأبناء الغد آلة تكتب وتترجم وتصحح على هذه الطريقة! 6. إبراهيم المازنى صديقنا المازنى فى رأى بعض الناقدين أديب وليس بصحفى، أما أنه أديب فلا موضع فيه للكلام، أما أنه ليس بصحفى فالذى أعرفه أنه كان مرشحًا للصحافة وهو لا يزال فى سلك التدريس، ولا أدرى هل يذكر الآن أو قد نسى نبوءتى له بالمستقبل الصحفى قبل خمس وعشرين سنة. كنا نعلم التاريخ والأدب والترجمة فى المدرسة الإعدادية، وكان عليه أن يلخص دروس التاريخ ويطبع نسخًا منها لتوزيعها على التلاميذ، فتناول القلم وأمامه كتاب إنجليزى يقرأه ويلخصه ويترجمه ويكتبه فى وقت واحد كأنه ينقل من كتاب. وعجب زميلان، لعلهما مدير المطبوعات الحاضر الأستاذ فريد أبوحديد، وسكرتير مجلس الوزراء كامل سليم بك، فقلت: إن الصحافة أولى به من التدريس لأنها تحتاج إلى مثل هذه السرعة، ولا تجدها فى كثيرين، وقد كان. فلما انعقدت المحكمة العسكرية الإنجليزية للنظر فى قضية عبدالرحمن فهمى بك وزملائه، كان محضر الأستاذ المازنى فى صحيفة الأخبار أوفى المحاضر وأمتعها بلا استثناء. وقد اختبرته صحافة الاستقرار فى المكاتب، ولم تختبره صحافة الطواف والانتقال، ولكنه لو عالج وصف الرحلات وتمثيل الصحف فى الميادين لكان فيما اعتقد من الطراز الأول بين كتاب هذا المجال. 5. فكرى أباظة اشتهاره بالفكاهة شيء محزن! وأشهد له أنه أحد الجادين فى مصر إذا كان لابد من هذا، أو من وصفه بالقدرة الفكاهية، ليكن هذا إذن! عنده بضاعة صحفية لا تخذله، لأنها مستمدة من خلقه ومزاجه، وهى علاقاته التى لا يفرق فيها بين الأعداء والأصدقاء، واستطاعته أن يستمع من هؤلاء كما يستمع من هؤلاء، وأسلوبه فى الإرضاء كلما أغضب هذا أو ذاك من الزعماء والرؤساء، كل الناس سواء عنده، وهو عند كل الناس سواء. 4. محمود أبوالفتح صحفى بغير قلم أو صحفى فى وسعه أن يستغنى عن القلم فليس المهم ما يكتبه ويصوغه، بل المهم ما يسمعه وما يعطيه ليكتب ويصاغ وقدرته على أن يلقى أناسًا كثيرين هى أساس قدرته فى الصحافة وفى السياسة. ليس بقوة سياسية على أى حساب إذا انفرد عن حزب أو عن صحيفة سيارة، فإذا انتمى إلى حزب أو صحيفة سيارة أمكنه أن يخدمها وأن يصبح شيئًا بخدمته إياها، ولو عهد إليه فى إدارة دكان لأداره على النمط الذى يتبعه فى إدارة الصحفية بغير كبير اختلاف. 3. محمد حمزة الولد سر أبيه ومن يقرأ مقالاته يعلم أنه ابن عبدالقادر، وتلميذه فى وقت واحد، فهو يقتدى به فى إيجازه ووضوحه، ويقتدى به فى ضبطه نفسه وأناته، ويقتدى به فى تصديه لما يعلم حق العلم، واجتنابه لما ليس له به علم، ورجاؤنا أن يدركه فى مضماره الذى كان فيه رحمة الله منقطع النظير. 2. محمد التابعى أنشأ طريقة فى الصحافة الأسبوعية كانت مبتكرة فى أوانها، ولكنها قابلة للتقليد والمجاراة إلى أبعد الحدود، فنشأ بعده من قلدوه، وتجاوزوا حدوده، وعليه الآن أن يبدأ من جديد على أسلوب جديد. 1. شركة الصحافة الأخوية مصطفى أمين، كامل الشناوى، وآخرون وهم أربعة أو خمسة أو أكثر بقليل من شبان الصحافة، لا شك فى افتنانهم، ولا شك فى ذكائهم، ولا شك فى اجتهادهم، ولا شك فى إنهم متفقون على شركة مساهمة رأس مالها محدود، ولكل منهم فيها نصيب متساو من تبادل الذكر والتنويه وتبادل الثناء والتقريظ ولا ضير فى ذلك، ولكن الضير أن يخدعهم النجاح، فيدخل فى روعهم أنه راجع كله إلى الافتنان، وإلى الذكاء، وإلى الاجتهاد، قرب صحيفة لا تفنن فى أبوابها، ولا تنسيق فى صورها، ولا طرافة فى موضوعاتها، تطبع لبعض القراء عشرات الألوف ولا تزال فى ازدياد. فليذكروا هذا لكيلا يقفوا بنجاحهم عند الحد الذى بلغوه، وليضاعفوا السعى فى المزيد من الافتنان وفى التماس القدرة التى تتوقف على كفاءتهم وحدها، ولا تتوقف قبل كل شيء على تشويق الجمهور، فليس اشتياق الجمهور بالمقياس الصحيح فى كل حال. واختتم «العقاد» التقرير بقوله: «وفى انتظار تعليقهم (المؤذى) أو سكوتهم الموافق سلام».
مشاركة :