حرص الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بنفسه على التأكيد على أهمية التعاون الفرنسي السعودي في المجال الثقافي في تعزيز العلاقات الفرنسية السعودية وفي إبراز إسهام الموارد البشرية الفرنسية والسعودية في صهر صورة جديدة عما يربط الثقافات والحضارات بعضها بالبعض الآخر. وأكد على ذلك الليلة قبل الماضية في الكلمة التي ألقاها في قصر الإيليزيه بمناسبة مأدبة العشاء التي أقامها على شرف الأمير سلمان ولي العهد والوفد المرافق له. وأثنى الرئيس الفرنسي على إحدى فعاليات هذا التعاون من خلال "معرض الحج" الذي أشرف هولاند بنفسه على افتتاحه في معهد العالم العربي في باريس في شهر أبريل الماضي. وقد أقيم المعرض من الثالث والعشرين من شهر أبريل إلى السابع عشر من شهر أغسطس الماضيين. وكان إشراف الرئيس الفرنسي على هذه التظاهرة قد تم خلال أول زيارة يقوم بها فرانسوا هولاند إلى معهد العالم العربي منذ وصوله إلى سدة الحكم عام 2012. ولابد من التذكير هنا بأن بصمات المنطق الأثري في هذا المعرض كانت بارزة شأنها في ذلك شأن بصمات التعاون الفرنسي السعودي في مجال التنقيب عن كنوز المملكة الأثري. فعلاوة على البعد الروحي الذي كان منظمو المعرض يرغبون في إبرازه، كان هناك حرص شديد على إظهار دينامية موسم الحج الشاملة في أبعادها الروحية والاجتماعية والثقافية والإنسانية. أقدم مخطوطة باللغة العربية هذه الروح هي التي تقف أيضا وراء مشاريع فرنسية سعودية كثيرة أخرى تتعلق كلها بالسعي إلى الكشف عن كنوز المملكة الأثرية وأدت عبر التعاون المشترك إلى إنجازات مهمة آخرها الاكتشاف الذي أعلنت عنه وزارة الخارجية الفرنسية قبل بضعة أسابيع خلت والمتمثل في العثور في أقصى الجنوب الغربي من المملكة على مخطوطة يعتقد خبراء الآثار السعوديون والفرنسيون أنها تشكل أقدم مخطوطة باللغة العربية. ومن ميزات هذا الاكتشاف أنه يجسد أثراً موثقاً بلغة كتبت بحروف في مرحلة تاريخية من مراحل الكتابة العربية هي مرحلة المرور من الخط النبطي إلى الخط العربي بمفهومه الحديث. من ميزاته الأخرى أن هذا الأثر مؤرخ بشكل دقيق ويعود إلى سنة 469 و470 ميلادية. مشروع التأريخ لذاكرة الحياة ولابأس من التأكيد هنا على أن التعاون الفرنسي السعودي في مجال التنقيب عن الآثار ليس حديث العهد. بل إن الأبوين الفرنسيين رافائيل سافينياك وأنطونين جوسين اللذين يعدان من رواد المدرسة الفرنسية الأثرية كانا قد كشفا عن بعض روائع المملكة الأثرية المتعلقة أساساً بمواقع "مدائن صالح" و"العلا" و"تيماء" خلال بعثات ثلاث جرت من عام 1907 إلى عام 1910. ومن أهم إنجازات هذه البعثات مقارنة بإنجازات أخرى حققها قبل ذلك خبراء غير فرنسيين في ما يتعلق بالكشف عن آثار المملكة أنها وثقت عبر صور فوتوغرافية بينما كانت غالبية الإنجازات التي قبلها توثق عبر رسوم باليد.. وقد سعت المملكة وفرنسا خلال العقدين الماضيين إلى تفعيل هذا الجهد الذي بدأ في بداية القرن الماضي عبر بعثات مشتركة يبلغ عددها اليوم ست بعثات وتنشطها فرق مشتركة فيها خيرة الباحثين والخبراء المختصين في علم الآثار وفي كلا البلدين منها على سبيل المثال الفريق العامل في إطار بعثة مشتركة تشكلت عام 2011 بمبادرة من الهيئة العامة للسياحة والآثار في المملكة. ومن مهامها الأساسية دراسة التحولات الاجتماعية والسكانية والاقتصادية والاستراتيجية التي شهدتها المنطقة الوسطى في المملكة والتي كانت عبر واحاتها ممراً أساسياً وتاريخياً بين الشمال والجنوب والشرق والغرب في شبه الجزيرة العربية. والحقيقة أن معرض آثار المملكة عبر العصور والذي أقيم في متحف اللوفر من الرابع عشر من شهر يوليو إلى السابع والعشرين من شهر سبتمبر عام 2010 يعد محطة أساسية من محطات التعاون السعودي الفرنسي في مجال التنقيب عن الآثار وتقديم كنوز المملكة الأثرية إلى العالم باعتبارها جزءاً من ذاكرة الحياة بالنسبة إلى البشرية كلها كما دونت في أراضي شبه الجزيرة العربية. وهناك قناعة اليوم بأن هذه الذاكرة ثرية وواعدة بدليل أن الدكتور المؤرخ لويس بلين قنصل فرنسا العام في جدة يؤكد أن ما تم الكشف عنه مثلاً من قبل خبراء الآثار الفرنسيين والسعوديين في نجران ودومة. الجندل لا يتجاوز اليوم 5% مما يمكن أن يكتشف.
مشاركة :