لأن الشعوب منذ الأزل لا تثق بالحكومات، فإن شعوب المستقبل التي ستدار حياتها بواسطة الذكاء الاصطناعي ستستمر على نفس عدم الثقة، وستكتشف أن الذكاء الاصطناعي الذي يسير الحكومة سيرسم قناة سرية بينه وبين صحافة الإنسان الآلي وظيفتها التخادم مع الحكومة تماما كوظيفة الصحافة اليوم!العرب كرم نعمة [نُشر في 2017/10/28، العدد: 10795، ص(18)] إذا كان امتلاك سيارة سيكون قريبا شيئا من الماضي، فهل من الأهمية بمكان أن نسأل عما إذا كانت قراءة الجريدة الورقية ستبقى فعلا قائما في المقاهي والمنازل؟ الأصح هل سيكون ثمة ما يمكن تسميته جريدة ورقية في المستقبل؟ ربما سيكون السؤال عن نوع السيارة التي كان يمتلكها جدك أكثر سهولة مما إذا كنت تتذكر شيئا ما كان يسمى جريدة؟ هناك سؤال يمتلك أهميته أيضا بالنسبة لجمهور اليوم أكثر من أي وقت مضى، بعد أن تناست الصحف دورها المفترض بالنسبة للمجتمع، لماذا يجب على الجمهور أن يهتم إذا بقيت تلك الصحف على قيد الحياة أم لا؟ نحتاج إلى خيال سينمائي ثلاثي الإبعاد من أجل إجابة مقنِعة، فالمستقبل كفيل بتحويل الأحلام إلى حقائق، لكنه أيضا لا يبالي بما يحسب على الماضي، والجريدة ماضية في شكلها الورقي المألوف وكيف كان يتأبطها القراء الأوفياء ويتمتعون بقراءتها في صباح مشمس بمقهى الضاحية والبلدة، كل ذلك سيأخذ مساحة من أرشيف التاريخ الصحافي. ستعترف عندئذ جميع حلول إنقاذ الصحافة الورقية بفشلها، تغيير رائحة الصحيفة الورقية إلى عطر منعش كان حلا فاقدا لجدواه وبلا إغراء لأن الزمن حينها سيكون قد تجاوز الورق، في بريطانيا بدأت البلاد تغيير العملة الورقية إلى بلاستيكية لأنه لا يمكن التعويل على تداول الورق سليما بين أيدي الناس، العملة اليوم مطبوعة على مادة لا يمكن تقطيعها أو إتلافها! الجريدة مستقبلا ستكون كذلك وباسم مختلف لا يمت للورق بصلة. بالنسبة للسيارات، فقد تعين حظر بيع السيارات البترولية والبنزين في المملكة المتحدة اعتبارا من عام 2040. ولكن قبل أيام فقط أعلنت أكسفورد أنه من المقرر أن تكون أول مدينة بريطانية لحظر جميع سيارات البنزين والديزل والشاحنات الصغيرة من الشوارع المركزية، ومع أنه لا يتوقع أن تتخلى المدن عن صحفها في وقت قريب، لأنها لا تريد التخلي عن صوتها، الجريدة كانت ولم تزل إلى حد ما صوتي وصوتك وصوت الحكومة، لكنّ الحنجرتين العاليتين “تويتر وفيسبوك” كانتا صوتا هادرا استقطب الجمهور بشكل مخيف، ولم يعد يهتم الكثيرون بصوت الجريدة، الحق لم يعد هذا الصوت مسموعا كما كان، لذلك بدا مستقبل الصحف غير واضح في أحسن الأحوال. إذا كانت الوظيفة التاريخية للجريدة تقديم المعلومات وإشاعتها وربط المجتمع في ديمقراطية حرة من الأفكار، فإن مثل هذا الدور سيكون بمقدور تكنولوجيا المستقبل التكفل به بنجاح، من يدري إن كان سيتوفر شريط الأخبار في عصب داخل العين نتحكم بمشاهدته، أو عصب يومض صورة على الكف لتكون يدنا جريدتنا في المستقبل!يتوقع أن يكون ثمة جدل جديد بشأن مفهوم الصحافة الذكية، لأن المُرسل والمُستقبل سيتداخلان بشكل مثير للالتباس والشكوى ربما يكون المستقبل لأجهزة الاستقبال التي تثقب أصابع الإبهام لدينا عندما يكون الإنترنت أشبه بعصب في داخل أجسامنا أو عين شفافة تتواءم مع عيوننا، أو… من يدري؟ عن ماذا سنكتم ضحكاتنا في المستقبل، عن أجهزة الكمبيوتر المحمول، الهاتف الذكي، التلفزيون، طريقة استهلاك الأخبار، لأننا “نعتقد دائما بأننا وسط ثورة تكنولوجية كبيرة، وأن المستقبل سيكون امتدادا للأشياء الرائعة التي لدينا اليوم”، حسب مايكل سكابنكر في مقال له بصحيفة فايننشيال تايمز. هذا يعني أن مباني الصحف ستكون من الماضي، وسيكون هناك مؤرخون للصحافة التقليدية في زمن الصحافة الذكية. وستكون هناك مهنة منقرضة كان يديرها الصحافيون، وتكنولوجيا متقدمة للذكاء الاصطناعي تصنع الخبر وتوزعه، وسيثار نفس الجدل بشأن موضوعيتها ومهنيتها، وعما إذا كانت تدار وفق مصالح المصنعين الكبار الذين يتحكمون بالذكاء الاصطناعي. لن يتوقف مستقبلا في كل الأحوال الجدل بشأن الاتهامات بالانحياز التي رافقت الصحافة منذ انطلاقها. يتوقع أن يكون ثمة جدل جديد بشأن مفهوم الصحافة الذكية، لأن المُرسل والمُستقبل سيتداخلان بشكل مثير للالتباس والشكوى. فمن هو المعبر الحقيقي عما يتوق له المجتمع من عمل الحكومات؟ هل يفي الإنسان الآلي بوصفه صحافيا بما يسمو له الإنسان الطبيعي؟ ومن قال إن ذلك الإنسان الآلي لن يكون وفيا لأبناء جنسه، ويتنكر لانشغالات الإنسان الطبيعي ويكون خادما للحكومة الذكية؟ مهلا! عن أي حكومة نتحدث كي نحاسبها عن الفساد في صحافة المستقبل، ستكون الحكومة آلية يديرها الذكاء الاصطناعي، والصحافة صناعة آلية تماما لا دخل للبشر في إنجاز محتواها. حكومة المستقبل والصحافة ستكونان على توافق تام بفضل الذكاء الاصطناعي، فمن يحكم هو نظام برمجي دقيق يدير شؤون البلاد، يتخذ القرار بلا خطأ يذكر، يعطي الإيعازات للجيش بالتحرك ومنع الاختراقات والقرصنة، يسيطر على حدود البلاد الرقمية، يكتشف الجرائم قبل حدوثها، يشخص المجرمين من طريقة أفكارهم، فالارتباط سيكون آنذاك بين الحكومة الرقمية والشعب على درجة من الذكاء بحيث يعرف ما في أدمغة الناس! ماذا عن الصحافة؟ هل ستبقى لها مساحة لتشخيص الخلل ومنع فساد الإنسان الآلي، وتشخيص أخطاء الحكومة الرقمية، وإشاعة المعلومات بين الشعب؟ هل ستكون هناك أخبار وهمية مثلا، هل سيتنازل الذكاء الاصطناعي عن قيمه الأخلاقية المبرمجة ويروج لأخبار كاذبة؟ لأن الشعوب منذ الأزل لا تثق بالحكومات، فإن شعوب المستقبل التي ستدار حياتها بواسطة الذكاء الاصطناعي ستستمر على نفس عدم الثقة، وستكتشف أن الذكاء الاصطناعي الذي يسير الحكومة سيرسم قناة سرية بينه وبين صحافة الإنسان الآلي وظيفتها التخادم مع الحكومة تماما كوظيفة الصحافة اليوم! إن فكرة عدم بقاء الصحافة على قيد الحياة سيفندها المستقبل، لأن حيوات ذكية أخرى ستوجد للصحافة، تكون فيها في خدمة الحكومات وتدير ظهرها للناس! كاتب عراقي مقيم في لندنكرم نعمة
مشاركة :