ظلت العلاقات السعودية-الفرنسية تحافظ على طابع الخصوصية والتميز منذ تدشينها قبل أكثر من ثمانية عقود، كما أنها ظلت تتسم بالقوة والمتانة برغم تغير الأحزاب الحاكمة وتراوحها بين اليمين المحافظ واليسار الاشتراكي خلال تلك الفترة الطويلة. وصحيح أن تلك العلاقات شهدت نقلة نوعية منذ زيارة جلالة الملك فيصل للأليزيه عام 67 عندما أسفرت تلك الزيارة التاريخية عن تحول في السياسة الخارجية الفرنسية تجاه القضية الفلسطينية والنزاع العربي-الإسرائيلي 180 درجة عندما قررت فرنسا الجنرال ديجول فرض حظر على صادرات الأسلحة لإسرائيل بعد أن كانت المصدر الرئيس في تزويد تل أبيب بالأسلحة في عهد الرئيس جي موليه، إلا أن العلاقات الفرنسية-العربية بعامة، والفرنسية-السعودية بخاصة لم تتغير بعد رحيل الجنرال ديجول، بل ظلت تنمو بشكل متزايد، وحيث ظلت الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين شاهدًا على هذا النمو والتطور، وهو ما أكدته مؤخرًا زيارة صاحب السمو الملكي ولي العهد النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الأمير سلمان بن عبدالعزيز لباريس بتوجيهات من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يحفظه الله- التي بدأت الاثنين وتنتهي اليوم (الخميس) والتي اعتبرت في نظر العديد من المراقبين بأنها علامة بارزة في مسيرة علاقات الشراكة الإستراتيجية بين المملكة وفرنسا. دبلوماسية فاعلة تعتبر الزيارة بأبعادها الاستراتيجية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية وبما هو معول عليها من نتائج مهمة، تعتبرترجمة عملية للسياسة الخارجية السعودية التي وضع أساسها القائد المؤسس الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- وسار على نهجها أبناؤه البررة من بعده وصولًا إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- خاصة فيما يتعلق بأهمية ترسيخ أواصر علاقات الصداقة والتعاون مع دول العالم بما يحقق الأمن والاستقرار في المنطقة وفي العالم، وما يتطلبه ذلك من التواصل مع قادة وزعماء العالم في كل ما فيه مصلحة وخدمة مصلحة الوطن والمواطن. وهو ما تجسده الزيارة التي تعتبر محطة مهمة في مسيرة العلاقة بين الرياض وباريس بعد أن اتخذت تلك العلاقة مسارات جديدة من التنسيق والتعاون بين البلدين في مختلف الأصعدة على إثر الزيارة التاريخية التي قام بها خادم الحرمين الشريفين إلى فرنسا عام 2007 ، وبعد زيارة الرئيس هولاند للمملكة العام الماضي وما تم خلالها من توقيع العديد من الاتفاقيات بين البلدين. زيارة مهمة توقيت الزيارة والظروف التي تمت فيها أكسبتها أهمية استثنائية، فقد جاءت في الوقت الذي تواجه فيه منطقة الشرق الأوسط تحديات وتهديدات ومخاطر غير مسبوقة، فإلى جانب تمدد تنظيم داعش الإرهابي عبر العراق وسوريا، واستهدافه دولًا أخرى في المنطقة وصولًا إلى دول المغرب العربي- تواجه ليبيا واليمن حالة من التوترات والاضطرابات الأمنية المتعددة المصادر والتي لم تعد تقتصر فقط على التنظيمات الإرهابية، إلى جانب الفراغ الدستوري الذي يعانيه لبنان، والحرب الوحشية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة على مدى 51 يومًا أحالت فيه مدن القطاع إلى أنقاض بعد هدمها حوالى 20 ألف منزل إلى جانب المدارس والجامعات والمستشفيات والمساجد وسقوط أكثر من ألفي ضحية من المدنيين ربعهم من الأطفال، و11 ألف جريح وتشرد أكثر من ربع مليون مواطن ممن تهدمت منازلهم، وما أعقب ذلك من الإعلان عن نيتها مصادرة 4000 دونم من أراضي الضفة الغربية. لكن الزيارة جاءت أيضًا بعد اتخاذ المملكة سلسلة من القرارات والإجراءات الحاسمة في محارية الإرهاب توجت بتقديم مائة مليون دولا تبرع للمركز العالمي لمكافحة الإرهاب في الأمم المتحدة وباللقاء الذي عقده خادم الحرمين الشريفين مع 36 سفيرًا عربيًا وأجنبيًا للتحذير من تمدد تنظيم داعش الإرهابي الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى أوروبا وأمريكا، ودعوة مجلس الوزراء الاثنين الماضي في اجتماعه الذي ترأسه سمو ولي ولي العهد الأمير مقرن بن عبدالعزيز إلى الإسراع في إدخال المساعدات الإغاثية إلى القطاع والتخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني الذي عانى الكثير من جراء جرائم الحرب الإسرائيلية. كما انه من جهة أخرى لا يمكن إغفال أهمية الزيارة والنتائج التي ستترتب عليها بالنسبة للثقل والمكانة التي تمثلها المملكة وفرنسا فالمملكة تعتبر قلب العالم الإسلامي باعتبارها أرض الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين في العالم ومحجهم ومعتمرهم ومهوى أفئدتهم، وتعتبر أيضًا من أكبر 20 اقتصادًا في العالم ومن أكثر دوله أمنًا واستقرارًا وجذبًا للاستثمارات، إلى جانب مساهمتها بسخاء في تنمية البلدان النامية، وفي استقرار سوق النفط العالمي، والأسواق المالية. كما لم يعد بالإمكان تجاهل جهود المملكة في مواجهة الإرهاب بكافة أشكاله على كافة الأصعدة، وفي نشر رسالة الإسلام الخالدة التي تنص على الوسطية والتسامح والاعتدال وترسيخ ثقافة الحوار على الصعيدين الوطني والعالمي من خلال المبادرات والمؤتمرات العديدة التي تبناها ودعا إليها خادم الحرمين الشريفين -رعاه الله-. أما فرنسا فإن ما تمثله من مكانة متميزة في أوروبا وفي الساحة الدولية باعتبارها إحدى الدول الفاعلة في الناتو وفي الاتحاد الأوروبي وما تمثله من ثقل اقتصادي وريادتها في كثير من الصناعات المتقدمة، خاصة الصناعات السلاحية، كل ذلك يدعم الشراكة الإستراتيجية بين البلدين ويمثل دفعة قوية للعلاقات بينهما في كافة الأصعدة والمجالات، وعلى الأخص على صعيد مواجهة الإرهاب. بعدين أساسيين لا يعتبر التطابق في وجهات النظر بين الرياض وباريس في العديد من القضايا ذات الاهتمام المشترك، وعلى الأخص قضية الإرهاب وضرورة حشد الجهود الدولية في مواجهة تمدد تنظيم داعش الإرهابي، وأيضًا القضية السورية حيث يتفق الطرفان على أن التأخير في التعامل مع الملف السوري منذ اندلاع الأزمة أدى إلى تفاقمها وساهم في تعقيدها، وأيضًا قضية السلام في الشرق الأوسط من خلال تأييد ودعم الأليزيه لمبادرة السلام العربية والتي دعا الرئيس هولاند في لقائه مع سمو الأمير سلمان إلى إنعاشها، إضافة إلى التوافق حول ضرورة الإسراع في تسليح الجيش اللبناني - لا يعتبر هذا التطابق في المواقف السياسية الذي أمكن التعبير عنه من خلال لقاءات سمو الأمير سلمان مع المسؤولين الفرنسيين وفي مقدمتهم الرئيس فرانسوا هولاند سوى أحد الأبعاد التي تميز العلاقات السعودية – الفرنسية وتكسبها صفة المتانة، فهناك أيضًا البعد الاقتصادي الذي يشكل هو الآخر أهمية خاصة في تلك العلاقات، وهو ما تبرزه الأرقام، حيث بلغت قيمة الصادرات الفرنسية للمملكة 3.2 مليار يورو عام 2012 ، وحيث يقدر حجم الاستثمار الفرنسي في المملكة بنحو 15 مليار دولار. كما ينبغي التذكير بأن المملكة تعتبر المزود الأول لفرنسا بالنفط ، والشريك الثالث للسعودية عالميًا. يغادر سمو الأمير سلمان باريس اليوم بعد أن مهدت زيارته التاريخية الاستثنائية لفرنسا الطريق لإعادة الهيكلة الدولية لمواجهة الإرهاب، وأيضًا بعد أن فتحت صفحة جديدة في سجل علاقات الصداقة والتعاون بين المملكة وفرنسا.
مشاركة :