مشروع الانفصال والدولة الكتالونية، ولدا ميتين في رحم الإقليم قبل الدولة الإسبانية ذلك أن الأصوات المعارضة للانفصال في كتالونيا مرتفعة جدا.العرب أمين بن مسعود [نُشر في 2017/10/30، العدد: 10797، ص(9)] كما كردستان العراق، اختارت كتالونيا أن تخطو خطوة لتقف فوق لغم استراتيجي شديد الانفجار فلا هي قادرة على الرجوع إلى الحالة الأولى للإقليم حيث صلاحيات الحكم الذاتي والفيدرالية الناعمة، ولا هي مؤهلة لاقتلاع اعتراف بـ“الدولة الوليدة”. يدرك قادة كتالونيا أنهم يقفون اليوم فوق لغم، حيث يشتدّ أواره ويحتدّ لهيب اشتعاله باطراد، فلا مدريد ستقبل بانفصال أحادي ولا أوروبا ستؤيد خطوة خطيرة تهدد راهن ورهان النادي الأوروبيّ. كثيرون في برشلونة أخذوا بنشوة “الانتصار الانفصال” قبل أن يرتد سؤال “الخطوة التالية” إلى قطب رحى الفعل السياسي في الإقليم، بعد أن جاء الردّ واضحا من واشنطن ومن عواصم القرار الدوليّ، بالرفض الكلي لأي خطوة انفصالية والتأييد الكامل لحق مدريد في استرداد سيادتها. مأساة الكثير من السياسيين تكمن في عدم استقراء استتباعات الخطوات المعتمدة أو بعبارة أدق في العجز عن القراءة الدقيقة لكافة الحيثيات والملابسات. والسياسة بمنطق العارفين بتضاريسها كامنة في “فنّ الممكن” وليس في “فرض المحال”، وفنّ الممكن يقتضي دراسة العواقب المرجحة منها والمستبعدة واستقراء فرضيات النجاح وإمكانيات الفشل، ومنها يكون الإحجام أو الإقدام. من الواضح هنا أنّ مصير كتالونيا هو الفشل الذريع، لا فقط لأنّ مقومات الاستقلال لم تنضج بعد ومقدمات الانفصال لم تتأصل، وإنما وهو الأهمّ لأنّ سيناريو “الدولة المغلقة” جغرافيا وسياسيا واقتصاديا ينتظر الدولة الوليدة في حال إنشائها. لا تنشأ الدول فقط انطلاقا من قرار داخليّ أو تقرير مصير محلي أو مواجهة مسلحة، إلا إذا ارتبط كل ما سبق بموافقة من العاصمة المركزية وبمباركة من الإقليم وتأييد من المنتظم الدوليّ. غير ذلك لن تنتج هذه الكيانات سوى منظومة جديدة على درب الآلام والجروح، على غرار الكيان الصحراويّ في المغرب الأقصى، أو مخاتلة للجغرافيا السياسية والأنثروبولوجيا الإنسانية على غرار الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة. المفارقة اليوم، أنّ كتالونيا التي راهنت بكل رصيدها الهوياتي والإثني واستنفرت كافة سرديات المظلومية للخروج من وضع الإقليم نحو الدولة، تخسر حقيقة الإقليم وصلاحيات الحكم الذاتي دون أن تتحصّل على الدولة. والمفارقة الأعجب أنّ الإقليم الذي دخل في تفاوض مع مدريد لتوسيع الصلاحيات التقريرية والتنفيذية يكاد اليوم يضيع من بيد يديه كافة خصوصيات الحكم المحليّ. ذلك أنّ الخطوات الخمس التي أعلنتها مدريد مباشرة بعد إعلان برلمان كتالونيا الانفصال، وهي خطوات مالية وأمنية وتشريعية وسياسية وإدارية تحوّل كتالونيا من إقليم بشبه صلاحيات دولة مستقلة إلى إقليم شبيه بمحافظة ضمن دولة مركزية. هكذا تهدر الخطوات المتسرعة التي تتضمن بحث السياسيين عن بطولة وهمية وعن إنجاز تاريخي على حساب الجغرافيا واقتناص المكتساب الانتخابية والدعائية على حساب مفهوم الدولة الجامعة. مشروع الانفصال والدولة الكتالونية، ولدا ميتين في رحم الإقليم قبل الدولة الإسبانية ذلك أن الأصوات المعارضة للانفصال في كتالونيا كثيرة للغاية. صحيح أنّ انفصال كتالونيا عن إسبانيا تمّ وأده بسرعة، وصحيح أيضا أنّ مدريد أبرزت من أنياب الدولة المركزية ما يؤكّد أنها لن تتفاوض على وحدتها، ولكن الصحيح في المقابل أنّ إعادة الإقليم إلى الدولة المركزية لن تكون نزهة سياسية أو عسكرية. كاتب تونسيأمين بن مسعود
مشاركة :