الدول لا تنشأ فقط انطلاقا من قرار داخلي أو تقرير مصير محلي أو مكاسرة مسلحة، بل يرتبط كل ما سبق بموافقة من العاصمة المركزية وبمباركة من المحيط الإقليمي وتأييد من المنتظم الدولي.العرب أمين بن مسعود [نُشر في 2017/10/29، العدد: 10796، ص(6)] كما كردستان العراق، اختار إقليم كتالونيا أن يخطو خطوة فوق لغم استراتيجي، ليجد نفسه لا هو قادر على الرجوع إلى الحالة الأولى حيث صلاحيات الحكم الذاتي والفيدرالية الناعمة ولا هو مؤهل لاقتلاع اعتراف إقليمي ودولي بـ”الدولة الوليدة”. يدرك قادة كتالونيا أنهم يقفون اليوم فوق لغم شديد الانفجار يحتدّ لهيب اشتعاله باطراد، فلا مدريد ستقبل بانفصال أحادي ولا أوروبا ستؤيد خطوة خطيرة أخرى تهز أركان النادي الأوروبيّ. كثيرون في برشلونة أخذوا بنشوة “انتصار الانفصال” قبل أن يرتد سؤال “الخطوة التالية” إلى قطب رحى الفعل السياسي في الإقليم، بعد أن جاء الردّ واضحا من واشنطن ومن عواصم القرار الدوليّ والتكتلات الإقليمية الكبرى، بالرفض الكلي لأية خطوة انفصالية والتأييد الكامل لحق مدريد في استرداد سيادتها على جغرافيتها المسلوبة. مأساة الكثير من السياسيين تكمن في عدم استقراء استتباعات الخطوات المعتمدة أو بعبارة أدق في العجز عن القراءة الدقيقة لكافة الحيثيات والملابسات. “الوقوف على اللغم” هو أيضا ذات المشهد في إقليم كردستان حيث أقدم مسعود البارزاني على خطوة غير محسوبة جعلت الأكراد في استعصاء استراتيجي حيث استحالة عودة الأمور إلى ما قبل استفتاء تقرير المصير ولا هم بقادرين على فرض الانفصال وتحويله إلى أمر واقع. السياسة بمنطق العارفين بتضاريسها كامنة في “فنّ الممكن” وليس في “فرض المحال”. وفنّ الممكن يقتضي دراسة العواقب المرجحة منها والمستبعدة واستقراء فرضيات النجاح وإمكانيات الفشل، ومنها يكون الإحجام أو الإقدام. من الواضح أنّ مصير انفصال كتالونيا متمثل في الفشل الذريع، لا فقط لأنّ مقومات الاستقلال لم تنضج بعد ومقدمات الانفصال لم تتأصل، وإنما -وهو الأهمّ- لأنّ سيناريو “الدولة المغلقة” جغرافيا من جيرانها وسياسيا من محيطها واقتصاديا من شركائها ينتظر الدولة الوليدة في حال إنشائها. لا تنشأ الدول فقط انطلاقا من قرار داخليّ أو تقرير مصير محليّ أو مكاسرة مسلحة، بل يرتبط كل ما سبق بموافقة من العاصمة المركزية وبمباركة من المحيط الإقليمي وتأييد من المنتظم الدوليّ. وغير ذلك، لن تنتج هذه الكيانات سوى منظومة جديدة من درب الآلام والجروح على غرار الجبهة الانفصالية (بوليساريو) في الصحراء المغربية أو مخاتلة للجغرافيا السياسية والانثروبولوجيا الإنسانية والتاريخية على غرار الكيان الاسرائيلي في فلسطين. المفارقة اليوم، أنّ كتالونيا التي راهنت بكل رصيدها الهوياتي والاثني للخروج من وضع الإقليم نحو الدولة، تخسر حقيقة الإقليم وصلاحيات الحكم الذاتي دون أن تتحصّل على الدولة. والإقليم الذي دخل في تفاوض مع مدريد لتوسيع الصلاحيات التقريرية والتنفيذية والتشريعية يكاد اليوم يضيع ممن بيديه كافة خصوصيات الحكم المحليّ. ذلك أنّ الخطوات الخمس التي أعلنتها مدريد مباشرة بعد إعلان برلمان كتالونيا الانفصال، وهي خطوات مالية وأمنية وتشريعية وسياسية وإدارية، تحوّل كتالونيا من إقليم بشبه صلاحيات دولة مستقلة إلى إقليم شبيه بمحافظة ضمن دولة مركزية. هكذا تهدر الخطوات المتسرعة التي تتضمن أشياء من بحث السياسيين عن بطولة وهمية وعن إنجاز تاريخي على حساب الجغرافيا واقتناص المكتساب الانتخابية والدعائية على حساب مفهوم الدولة الجامعة، على الأقاليم والأقليات القلقة فرصة تأصيل عقد اجتماعي وسياسي جديد. مشروع الانفصال والدولة الكاتالونية، ولدا ميتين في رحم الإقليم قبل الدولة الإسبانية ذلك أن الأصوات المعارضة للانفصال في كتالونيا كثيرة. صحيح أنّ انفصال كتالونيا عن إسبانيا تمّ وأده بسرعة، وصحيح أيضا أنّ مدريد أبرزت أنياب الدولة المركزية ما يؤكّد أنها لن تتفاوض على وحدتها، ولكن الصحيح في المقابل أنّ إعادة الإقليم إلى الدولة المركزية لن تكون نزهة سياسية أو عسكرية سيما بعد استفحال دعوات الانفصال وانتشار مقولات الدولة الموعودة والوطن المسلوب. كاتب تونسيأمين بن مسعود
مشاركة :