الفن الروائي هو منتج غربيّ النشأة؛ فكان من الطبيعيّ أن يتأثر بشكل مباشر بجميع التطورات الثورية التي شهدتها البيئة الغربية.العرب لطفية الدليمي [نُشر في 2017/11/01، العدد: 10799، ص(14)] يعدّ شيوع الأدب المترجم وتزايد الطلب عليه في بيئتنا العربية حقيقة ناصعة لا يمكن نكرانها، ويصحّ هذا الأمر مع جميع الألوان الأدبية وإن كان التفوّق محسوما لصالح الرواية التي انعقدت لها راية السبق في الانتشار لأسباب كثيرة كتبت عنها في تقديمي لكتابي المترجم “تطور الرواية الحديثة” الصادر عام 2016. كان السبق أول الأمر مقتصرا على الأدب الغربي، ثم سرعان ما هبّت موجة ترجمة الآداب الآسيوية والأفريقية، ثم أعقبتها موجة أدب أميركا اللاتينية الذي التصق بظاهرة الواقعية السحرية، وقد ساهمت جوائز نوبل في ترسيخ بعض الأسماء الأدبية مثل ماركيز وأورهان باموك وسواهما، غير أن أسماء أخرى ذاعت وانتشرت بعيدا عن صخب جائزة نوبل، وليس مثال أليف شافاك ببعيد. ثمّة أسباب موضوعية- كما أرى- تقف وراء هذه الظاهرة الصارخة، ويمكن إجمال أصل تلك الأسباب في أن الفن الروائي هو منتج غربيّ النشأة؛ فكان من الطبيعيّ أن يتأثر بشكل مباشر بجميع التطورات الثورية التي شهدتها البيئة الغربية وبخاصة في حقول الفلسفة والسيكولوجيا والعلم والتقنية، الأمر الذي جعل الفن الروائي الغربي في حركية مستمرة لعكس إسقاطات تلك التغيرات الثورية الدائمة في المنتج الروائي وعلى نحوٍ يشدّ القارئ إلى نبض الحياة الحية والمتحركة بعيدا عن النظرة السكونية التي تُحيل الرواية إلى محض “حدّوتة” حكائية مفرّغة من الحمولات المعرفية والكشوفات التي ترمي إلى فكّ مغاليق الإمكانيات الخبيئة في الحياة؛ بينما انشغلت معظم الروايات العربية- المعنية بوصف الوقائع دون التأثير في تيارها- بملاعبة اللغة بدل الأفكار. ولكن، كيف يمكننا تسويغ انتشار الآدب الآسيوية أو الأفريقية أو التركية وهي ليست آداباً غربية؟ يبدو لي أن السبب في شيوعها يكمن في حقائق ثلاث: الأولى هي أن هذه الآداب نشطت على الساحة العالمية بعد أن رسّخت بلدانها بنيتها التحتية الاقتصادية والصناعية- بما فيها المنطقة الأفريقية-، وتكمن الثانية في استفادة هذه الجغرافيات من الإرث الكولونيالي وتوظيف وسائله الناعمة في تحقيق التأثير العالمي مثل استخدام اللغة الإنكليزية والتنظيم المؤسساتي المحكوم بسطوة القانون، أما الحقيقة الثالثة فهي وجود مهاجرين من تلك الجغرافيات في بلدان المركزيات الغربية ممّن وظفوا تجاربهم الثرية في أعمال أدبية حازت على القبول والإنتشار العالمي وبخاصة انهم خاطبوا القارئ الغربي بخطاب منفتح يقترب من الخطاب المألوف لديه. أما الأسباب الذاتية لانحسار المنتجات الأدبية العربية على الصعيد المحلي فيمكن القول إن القارئ العربي، وبعد عقود طويلة من الهزائم الفكرية والمجتمعية على كافة الأصعدة، بات يفضّل المنتج الفكري الأجنبي- والرواية من بينها بالطبع- في ردة فعل غير معقلنة أو مسوّغة، وأحسب أن هذا الحال سيستمر لعقود طويلة مالم تحصل انعطافة ثورية هائلة في الوضع العربي. لا بد هنا من الإشارة إلى حقيقة مهمة وهي إنّ المنتج الأدبي برغم تأثره العميق برسوخ البنية التحتية – بكافة مرافقها- في أي بلد من بلدان العالم؛ لكن تبقى الأفكار هي المادة الخام الأساسية التي تشكل فضاء الأدب، وهو السبب الذي يقف وراء ظهور أعمال أدبية عملاقة وذائعة الصيت في بلدان ذات بنى تحتية هشة واقتصاد مرتبك- مثل بلدان أميركا اللاتينية- وإن كان هذا الأمر نادراً وغير قابل ليكون مثالا قياسيا في كل الأحوال. كاتبة عراقيةلطفية الدليمي
مشاركة :