القاهرة: «الخليج» لأكثر من خمسين عامًا، ظلت الروائية الجامحة أجاثا كريستي، تقدم لنا الحياة كجريمة مثيرة للدهشة، عبر حبكاتها المتفردة، ولغتها المنسابة وسردها الذي يبني أركان الجريمة، ثم يهدمها في لحظة الوصول إلى اللغز، ربما يتسق هذا بشكل كبير، مع رؤية «كريستي» للحياة، هكذا هي الحياة: تيار جارف متصل مفعم بالتفاصيل والمفردات، لا تتوقف لانتظار أحد أو للحزن عليه. لم تتوقف كريستي (1890 - 1976) يوماً واحداً عن كتابة قصصها المشوقة، فهناك دائما جريمة تسعى للكشف عنها، وبجانبها المحقق «هيركيول بوارو»، و«ميس ماربل»، والكثير من الشخصيات التي ابتكرتها الروائية الأكثر مبيعاً في العالم. كان عام «1920» انطلاقة «كريستي» صوب عالم الكتابة، حيث نشرت روايتها الأولى «قضية غامضة» في صحيفة «رئيس بدلي»، وكان هذا فتحاً مروعاً ومثيراً أمام عشاق أدب الجريمة، فمنذ ذلك التاريخ، لم تهدأ «كريستي»، كانت دائماً ما تلهث وراء الأحداث المشوقة في موطنها «بريطانيا»، وفي الرحلات التي قامت بها إلى بلاد الشرق: العراق، سوريا، مصر، بالإضافة إلى مشاركتها كممرضة لجرحى الحرب العالمية الأولى والثانية، لكنها غالباً ما كانت تنأى بحياتها الشخصية عن أعمالها الروائية، فنادراً ما يجد القارئ أطيافاً من تلك الحياة التي قالت عنها كاتبة مذكراتها «جانيت مورجان»: «إن أجاثا كريستي هي سيدة ريفية بكل ما في الكلمة، ليس لأنها ولدت وترعرعت في توركاي - المنتجع الصيفي جنوبي بريطانيا - بل لأن مظهرها وعاداتها كانت مطابقة لحياة وعادات الحقبة التي عاشتها تماماً، ولم تمر في حياتها بأحداث دراماتيكية أو تسعى وراء المغامرة...».عاشت «كريستي» 85 عامًا، ولها في سجل التاريخ الأدبي، أكثر من 85 عملاً متنوعاً بين الرواية والمسرح، تُرجمت أعمالها إلى 44 لغة، لتصبح أشهر كاتبة للروايات البوليسية في التاريخ، حيث بيع من أعمالها أكثر من مليار نسخة، ورغم هذا الحضور المروع ل «كريستي» الكاتبة، إلا أن حياتها كانت تخلو من الصخب، الذي يلائم صاحبة: العدو الغامض، جريمة في ملعب الجولف، تحقيقات بوارو، لغز القطار الأزرق، كلب الموت، جريمة في قطار الشرق السريع. من أب أمريكي، وأم إنجليزية، ولدت أجاثا ميري كلاريسا، الشهيرة ب«أجاثا كريستي». عاشت طفولة سعيدة في بلدة «توركوي»، وكانت محاطة دائما بمجموعة من النساء القويات، تعلمت منهن، فن الإثارة، وتجاوز العقبات من أجل الوصول إلى ذروة الحياة، وتفتخر الروائية الشهيرة بطفولتها، تقول عنها: «قضيت طفولة مشردة إلى أقصى درجات السعادة، تكاد تكون خالية من أعباء الدروس الخصوصية، فكان لي متسع من الوقت لكي أتجوّل في حديقة الأزهار الواسعة وأسبح مع الأسماك ما شاء لي الهوى».بإصرار وتحفيز من والدتها، اتجهت «كريستي» إلى الكتابة، وذات يوم كانت الطفلة مريضة في فراشها، محبطة، عاجزة عن فعل أي شيء، نصحتها والدتها، بأن تحاول كتابة قصة قصيرة «قالت لي والدتي: خير لكِ أن تقطعي الوقت بكتابة قصة قصيرة وأنتِ في فراشك!- ولكني لا أعرف!- لا تقولي لا أعرف.تقول أيضاً: «بعدها حاولت، ووجدت متعة في المحاولة، فقضيت السنوات القليلة التالية أكتب قصصاً قابضة للصدر!! يموت معظم أبطالها، كما كتبت مقطوعات من الشعر ورواية طويلة، احتشد فيها عدد هائل من الشخصيات بحيث كانوا يختلطون، ويختفون لشدة الزحام، ثم خطر لي أن أكتب رواية جرائم، ففعلت واشتد بي الفرح حينما قبلت الرواية ونشرت، وكنتُ حين كتبتها متطوعة في مستشفى تابع للصليب الأحمر إبان الحرب العالمية الأولى».تلقت أجاثا تعليمها في البيت مثل فتيات كثيرات من العائلات الميسورة حسب التقليد آنذاك، ثمَّ التحقت بمدرسة في باريس وجمعت بين تعلم الموسيقى والتدريب عليها وبين زيارة المتاحف والمعارض في فرنسا، عادت إلى إنجلترا في العشرين من عمرها، وجدت في انتظارها عدد من الخاطبين الأثرياء والفقراء، رفضتهم جميعاً، حتى كان زواجها الأول من العسكري البريطاني (أرتشي كريستي) عام 1914 ومنه أخذت لقبها الذي لازمها طوال حياتها، واستمر زواجها أربعة عشر عاماً، حيث طلقت منه في نهاية الأمر، بسبب إهماله لها وارتباطه بامرأة أخرى.في نفس العام 1914 تم إرسال زوجها إلى جبهة القتال في فرنسا في الحرب العالمية الأولى، بينما تطوعت هي لإسعاف الجنود المصابين في أحد المستشفيات البريطانية، وقد استفادت من تجربتها التطوعية التي استمرت حتى نهاية الحرب، واقتبست كثيراً من أفكارها وهمومها من هذه التجربة الإنسانية، ولعل أهم فائدة هي أنها استوحت شخصيتها الرئيسية «المحقق هيركول بوارو» من اللاجئين البلجيكيين الذين نزحوا إلى بريطانيا خلال الحرب بعد الغزو الألماني لبلادهم.ظهر المحقق «بوارو» في أول رواية تنشرها «كريستي» رسمياً عام 1920، بعنوان: «العلاقة الغامضة في ستايلز»، وقد تم قبول نشرها بعد موافقتها على تغيير النهاية، وفي عام 1922، نشرت روايتها الثانية بعنوان: «العدو الغامض» وقد احتوت على محققين جديدين هما تومي وتوبينسي، وبعد أن نشرت أربع روايات أخرى، تعرضت حياتها لهزة عاطفية تمثلت في طلب الطلاق الذي تقدم به زوجها في عام 1926 بعد ارتباطه بامرأة أخرى.ولصدمتها من هذا الطلب، غابت أجاثا عن منزلها، لفترة 10 أيام اختفت تماماً تاركة خلفها رسالة تقول إنها ذاهبة إلى يوركشاير، ولم يعثر لها على أثر، وتمثل هذه الأيام العشرة لغزاً في حياة أجاثا كريستي لم تكشف عن تفاصيله لأحد، ولولا الحملة المكثفة التي تم إعدادها للبحث عنها والتي شارك فيها ألف شرطي وخمسة عشر ألف متطوع من بينهم الكاتب السير «آرثر كونان دويل» نفسه، لربما اختفت أجاثا للأبد.وتم العثور عليها في نهاية الأمر في أحد فنادق يوركشاير تحت اسم «الآنسة نيلي» وهي كنية عشيقة زوجها، الذي طلقت رسمياً منه عام 1928 وبعد عامين من الطلاق التقت أجاثا ذات التسعة والثلاثين عاماً بعالم الآثار ماكس مالون الذي يصغرها بثلاثة عشر عاماً وأحبته وتوجت علاقتها به بزواج طويل بدأ عام 1930 حتى وفاتها عام 1976.منحها زواجها هذا فرصة زيارة دول الشرق الأوسط والاطلاع على مواقعها الأثرية النادرة، وقد وثّقت هذه التجربة في عدد من رواياتها الشهيرة مثل رواية «جريمة قتل في قطار الشرق السريع»، ورواية «جريمة في بلاد الرافدين»، وانضمت «كريستي» رسمياً إلى بعثة التنقيب البريطانية في نينوى شمالي العراق برئاسة (الدكتور تومسن كامبل) ثم إلى بعثة الأربجية عام 1932 برئاسة زوجها، وكانت فضلاً عن جهدها التنقيبي، تجد الوقت الكافي للكتابة، حتى إنه حين لم يتوافر لها السكن في الموقع الأثري، كانت تنصب لها خيمة خاصة بعيدة عن ضجيج الحفر لتستطيع كتابة رواياتها. وعن حياته المشتركة مع أجاثا، يقول مالوان: «عشنا في بيت صغير ذي حديقة أسفل تل النبي يونس، وضم التل أيضاً مستودع أسلحة سنحاريب - الملك الآشوري - وكان الوصول إلى بيتنا يستغرق عشرين دقيقة على ظهور الخيل، ومن القمة نطل على مشهد شامل للمناظر الطبيعية والتاريخ.كتبت كريستي عن العراق: «يا لها من بقعة جميلة، كان نهر دجلة على بعد ميل واحد وعلى تل الأكروبوليس العظيم تنتصب على الأرض رؤوس آشورية حجرية كبيرة، كانت منطقة مذهلة من البلاد، هادئة ورومانسية ومشبعة بالماضي».كان لكريستي تجربة مهمة مع الحضارة المصرية التي درست تاريخها، وآثارها وقد سجلت ذلك في عدد من أعمالها الشهيرة، حيث كتبت رواية (موت على النيل) التي حوّلت إلى مسرحية عام 1946 بعنوان (جريمة قتل على النيل)، كما كتبت الرواية الثانية (الموت يأتي في النهاية) وذلك عام 1945، كما كانت قد كتبت مسرحية (إخناتون) الملك المصري الذي فرض ديانة جديدة على المصريين، وقد أعدت أجاثا كريستي لكتابة هذه المسرحية منذ زيارتها (الأقصر) جنوبي مصر عام 1931، واستعانت بخبرة علماء الآثار في رسم شخوص المسرحية التي أصدرتها إحدى دور النشر عام 1973.في الثاني عشر من ديسمبر 1976، بينما كان زوجها يدفع كرسيها ذي العجلات إلى حجرة الجلوس بعد تناول الغداء، توقف قلب «كريستي» عن النبض، وأسلمت روحها بهدوء إلى بارئها، تاركة وراءها ثروة طائلة لعشاق فن كتابة الجريمة في العالم كله.
مشاركة :