في وسط حشد كبير من الناس، تتسلق سيدة سلّما وتربط حبلا حول رقبة تمثال شامخ، فتتعالي الصرخات وتتجمع الأيدي فوق طرف الحبل، ويبدأ الشد بقوة غاضبة، فتزحزحه، ثم تسحبه حتى تسقطه على الأرض، فتتوالى عليه الركلات والشتائم. لا، أنت لست في أفغانستان عام 2001 تشهد تحطيم طالبان لتماثيل بوذا، ولست في متحف مدينة الموصل عام 2015 تتابع تحطيم التماثيل الآشورية. مرحباً بك في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2017.قد يكون المحرك لهذا الحماس مختلفا، لكن مهما كان الدافع فالموقف مطابق، وفحواه الغضب المكبوت من ماضٍ سحيق، وإذا كان الاحتفاء برموز ذلك الماضي مرفوضا، صار المدمر «حضاريا متقدما» كان أم «همجيا متخلفا»، على قدم سواء، وكلاهما يستخدمان نفس الوسائل لمحو الماضي ومعاقبة الموتى.في قلب الغضب الأمريكي جذوة العنصرية والتفوق الأبيض ضد السود والأقليات التي لا تخبو مهما سُنـّت القوانين، فالكراهية والتفرقة ما زالت تطل برأسها من وقت لآخر لتعلن أن الظاهر من العدالة والمساواة لم يتغلغل في النفوس. بعد العديد من الحوادث التي أودت بحياة أشخاص من ذوي البشرة السمراء في اشتباكات مع رجال الشرطة المدجّجين بالسلاح، تأججت الاعتراضات وروح الثأر من جانب الأقليات فخرجوا في مظاهرات ينادون: «حياة السود مهمة». كان في مواجهتهم دائما جماعات يمينية متطرفة تؤمن بتفوق الإنسان الأبيض ونقائه العرقي، وتنظم مظاهرات تتسم بالعنف وتؤدي إلى صدامات ونزاعات.ثم جاء دور المحاسبة لأولئك الذي بذروا بذور التفرقة العنصرية، فاتجهت الرؤوس والأعين إلى تماثيل، وأسماء، وصور تمجدهم وتحتفي بإسهاماتهم في تشكيل التاريخ الأمريكي. كان التناقض شديدا بين بنود دستور دولة تؤكد على العدالة والمساواة ونبذ العنصرية، وبين مظاهر في نفس الدولة تخلد ذكرى أشخاص ساهموا في ترسيخ الظلم والعبودية. من هنا بدأت المطالبات، ليس فقط بإزالة التماثيل من الأماكن العامة، بل وبإعادة تسمية الشوارع، والمدارس، والمباني الحكومية التي تحمل أسماء أشخاص عسكريين، أو مدنيين لهم علاقة بالحرب الأهلية وكانوا يؤيدون الإبقاء على العبودية.وبدأت الإزالات بغرض النقل من الأماكن العامة إلى المتاحف، وربما المخازن، بعيدا عن النظر حتى لا تجرح مشاعر الناس الذين حملوا ذاكرة مليئة بالإهانة والعذاب في مرحلة هي الأكثر ظلاما في التاريخ الأمريكي. وحين تم نقل عدد من النصب التذكارية وأزيلت تماثيل لشخصيات بارزة، ظلت تماثيل أخرى مهددة بنفس المصير، ووصل التهديد إلى تمثال كريستوفر كولومبوس نفسه. وقد دار الجدل في الولايات المتحدة حول الجدوى والمدى الذي سيصل إليه هذا التحرك، حتى أن الرئيس ترامب نفسه قال: «هذا الأسبوع، هو روبرت لي، ولقد لاحظت أن جاكسون سينزل. أتساءل، هل هو دور جورج واشنطن أم توماس جيفرسون في الأسبوع المقبل؟».يرى مؤيدو الإبقاء على التماثيل أن في إزالتها اغتيال وتمزيق للتاريخ والثقافة المحلية، فلا أحد يستطيع تغيير الماضي، لكن بقاء المعالم يساعد على التعلم من أخطاء الماضي وعدم تكرارها. هذه التماثيل في مجملها أعمال فنية عظيمة وفي إزالتها اقتلاع للثقافة والجمال الفني، وكل هؤلاء الرموز ربما كانوا مذنبين، لكنهم أيضا قاتلوا وساعدوا في تأسيس البلاد. ثم إن الاعتراض على بقاء التماثيل والرغبة في تحطيمها لأنها رموز كراهية وعنصرية، ينطويان على شعور عميق بالكراهية كذلك.في اعتقادي أن النصب التذكارية لا تقام لتكريم أفراد لشخصهم، بل هي تمثل تعيينا لمواقف تاريخية، وتحديدا لملامح أحقاب زمنية بحلـْوها ومرّها. التماثيل لا تمجد القيمة التي يحملها شخص من باب الاحتفاء به كفرد، وإنما هي تشير إلى بروزه في فترة أدت مواصفاتها إلى بروزه، التماثيل دروس في التاريخ وعلامات لأحداثه القاتمة والمبهجة.
مشاركة :