عندما تتحدّث مع دانيال تظنه لبنانياً أباً عن جد، فمن الصعب جداً أن تصدّق أنّه ألماني، فهو تعلّم اللهجة اللبنانيّة لسنوات حتى أتقنها، واليوم بدأ بتعلّم اللغة العربية الفصحى، يعبّر عن نفسه بسهولة، يتحدّث عن تجربته بفخر ويكررّ الكلمات التي تتضمّن أحرفاً كان يعتقد أنّه لن يلفظها يوماً كحرف العين مثلاً. ويخبرنا أنّ حتى أولاده يتكلّمون العربية. دانيال هو واحد من الذين قدموا إلى لبنان بعد الأزمة السوريّة لتعلّم اللغة العربية في هذا البلد. في الحقيقة لا توجد إحصاءات دقيقة عن عدد الأجانب الذين يتعلّمون العربية في لبنان، إلا أنّ العاملين في المجال لاحظوا في السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً في إقبال الأجانب على تعلم اللغة العربية وتحديداً اللهجة المحليّة، خصوصاً بعد ثورات «الربيع العربي» والأزمة السورية. «بعد التغيرات السياسية التي شهدها الوطن العربي زاد اهتمام الأجانب بهذه المنطقة وبتعلّم اللغة العربية وتحديداً اللهجة، بهدف فهم هذه التغيّرات. لكن يبقى للأزمة السورية الأثر الأكبر، نظراً لقرب لبنان من سورية وتقارب اللهجتين»، هذا ما تقوله ندى الديراني المديرة الأكاديمية في «معهد الصيفي للغة العربية». ترى الديراني أنّ هناك أسباباً عدة تدفع الأجانب إلى تعلّم اللغة العربية منها عملهم في جمعيات غير حكوميّة أو في مؤسسات دوليّة متمركزة في لبنان، إلى أسباب أخرى كارتباطهم بشريك عربي أو لأنّهم من أصل عربي، موضحة: «هذه أسباب معروفة وربما ليست جديدة، لكن الجديد هو الإقبال على تعلّم اللهجة اللبنانية بهدف تسهيل التواصل مع اللاجئين العرب وتحديداً السوريين، فبعضهم مثلاً يطلب تعلّم مصطلحات وعبارات تتعلّق بالتمريض والأمور الحياتية اليومية فقط». استخدام عبارات «هادفة» تتكلّم فينيسا فرانسيس، وهي أستراليّة في الأربعينات من عمرها، بلهجة لبنانية مقبولة تستخدم عبارات تُشعرك بأنها تعرف خبايا اللهجة والمجتمع، أو بالأحرى تعرف «النكهة» كما تحب أن تقول. قرّرت فرانسيس تعلّم العربية لأنّها كانت تحضّر رسالة دكتوراه تتعلّق بكيفية تعبير الناس في الشرق الأوسط عن أنفسهم، وخلال رحلة بحثها لاحظت أن كثراً ممن كتبوا عن هذا الموضوع لا يجيدون لغة الناس الذين يكتبون عنهم. «هذا ليس منطقياً، معرفة اللغة لا تعني أن تركّب جملة صحيحة، هي كيف نستخدم هذه الكلمات التي تتحوّل إلى عبارات تخبر بطريقة استخدامها الكثير عن المجتمع وطريقة التفكير، وعندما يتعلّق الأمر بالتعبير عن النفس لن يعبر العربي بلغة أخرى بالطريقة عينها التي يعبّر بها عندما يستخدم لغته». ذهبت فرانسيس بداية إلى سورية وبدأت بتعلّم العربية الفصحى، وعندما بدأت الأزمة في سورية في عام 2011 انتقلت إلى لبنان، وبدأت تدرس اللهجة اللبنانية لأنها أقرب من الناس. وترى أنّه يصعب على غير العربي فك الرموز والعلاقة بين الفصحى وبين أي لهجة عربية، وتقول: «قرّرت دراسة اللهجة لأن هدفي كان التواصل مع الناس، واكتشفت أنّ الفصحى لن تفي بالغرض، فحتى لو فهمك الناس حين تتكلّم بالفصحى سيجيبون بالمحكيّة، ومن دون دراسة العامية يصعب عليّ فهم اللهجة، اليوم أستطيع أن أرى الروابط بين العربية المكتوبة والمحكية ولكن ليس في شكل كاف». تصرّ فرانسيس على التحدّث بالعربية أينما ذهبت ولكنها تقول إنّ الأمر أسهل في سورية حيث يمكنك التحدّث بهذه اللغة في أي مكان، أما هنا في لبنان فما أن يلاحظوا أنّك أجنبي حتى ينتقلون إلى الإنكليزية أو الفرنسية، «حتى حين أسألهم بالعربية يجيبون بلغة أجنبية، أكمل بالعربية ويكمّلون بالأجنبية، ولكن بعد إصراري يُجبرون على تحدّث العربية». تقول فرانسيس إنه ربما كانت سورية خياراً أفضل لتعلّم العربية لو كانت آمنة، فكلفة المعيشة هناك رخيصة مقارنة بلبنان حيث كل شيء باهظ (السكن، الطعام، المواصلات...). هذا إضافة إلى إمكان التدرّب على اللغة العربية مع الناس في الشارع في شكل يومي، أما في بيروت ولا سيّما في مناطق معينة فالأمر صعب. ولكنّها ترى أيضاً أنّ ميزة لبنان أنه يوفّر تعلّم اللهجة بطريقة أكاديمية وهذا نادر في سورية لأن الاتجاه أكثر إلى الفصحى. حنين... و «موسيقى» قصة كريم (52 سنة) مع تعلّم اللغة والعيش في لبنان مختلفة، فالحنين والعودة إلى الجذور كانا السبب الرئيس لدراسته العربية. يقول: «كان علي دراسة اللغة في العشرينات من عمري ليس في الخمسينات، هذه لغتي الأم، أنا لبناني لجهة والدي الذي هو من أصل سوري كردي، أمّي أمّيركية عاشت في لبنان 25 عاماً ولم تتعلّم اللغة العربية، أما أنا وحين قررت العودة كانت الرحلة رحلة تذكّر وليس تعلّم، أعرف هذه الموسيقى، للعربية موسيقى خاصة أشعر بها، أستطيع معرفة الصواب من الخطأ، ولكنني لا أجيد التعبير عمّا يدور في رأسي بلغة عربية». ولد كريم في لبنان وكان والداه يعلّمان في الجامعة الأميركية في بيروت، عاش في لبنان حتى سن الـ17، ولكن عائلته قرّرت ترك لبنان والاستقرار في الولايات المتحدة أبّان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. كريم يشبه أجانب كثراً يأتون لتعلّم «اللغة الأم» لأنهم من أصول عربيّة، فهو يشعر بغربة تزعجه عندما يعجز عن التواصل بلغة عائلته، «تتحدث عائلتي الممتدة الإنكليزية بطلاقة ولكنني أريد التواصل بالعربية، أنا عربي، وتعلّم هذه اللغة كان ولا يزال طموحاً وهاجساً رافقني منذ سنوات. واليوم تركت عملي في الولايات المتحدة، أنا محام، حالياً أكرس وقتي لتعلّم هذه اللغة، أريد التعبير بالعربية، واليوم أنا أسير على الطريق الصحيحة، الموضوع باختصار عاطفي محض عاطفي». «احترام من تعيش بينهم» «ليس من الاحترام أن أتوقعّ أن يتكلّم الناس لغتي في بلدهم، أنا احترم الناس الذين أعيش معهم لذلك أتعلّم لغتهم بكلّ محبة وشغف»، هذا ما تقوله داون (48 سنة) التي انتقلت مع ابنتها (8 سنوات) للعيش في لبنان منذ 4 أسابيع ملتحقة بزوجها الذي يعمل في لبنان. تستمتع داون الأميركية الجنسية بحياتها الجديدة وبتعلّم اللغة التي بدت لها في البداية غير جذّابة ومزعجة ولا سيّما الأحرف التي تُلفظ من الحنجرة. تأتي كلّ يوم إلى المدرسة من منزلها على درّاجتها الهوائية وتلقي التحيّة باللهجة اللبنانية، وتتواصل بكلماتها المحدودة مع من تمرّ بهم صباحاً، فإن لم تتواصل مع الناس بلغتهم لن تشعر أنها تعيش في البلد، ستفتقد نكهته، لذلك قررت دراسة اللهجة وليس اللغة العربية الفصحى. الوجهة الأنسب يشعر جاي وزوجته جاسيكا بفرحة كبيرة مع تعلّم كل كلمة جديدة باللغة العربيّة، يسألان عن التفاصيل وعن كل صوت وكلمة، فهدفهما تعلّم العربية حتى يتمكّنا من مساعدة النازحين السوريين كجزء من عملهما في الكنيسة. ترى جاسيكا أنّ لبنان هو المكان الأنسب لتعلّم العربية لأي عائلة أجنبية، وتقول: «لأنّني أم لثلاث بنات صغيرات أرى أن لبنان بلد مناسب لتعلّم العربية، فهنا لا تشعر بناتي بالغربة الكاملة لأنهن يجدن من يكلمهن بالإنكليزية فيشعرن بالأمان وفي الوقــت عينه يتعلّمن العربية عند التواصل مع المحيط. أشعر بالفرحة عندما تصر ابنتي على استعمال بعض الكلمات العربية، أريدها أن تتعلّم لغة البلد التي نعيش فيه فهذا جزء من الاحترام». «ديزني لاند» ونكهة الشرق الأوسط ... ومظاهر قبل استقرارها في لبنان لم تكن داون رأت حذاء رياضياً من ماركة «غوتشي» أو «فاندي»، كما استغربت وجود هذا العدد من السيّارات الفخمة. وتقول: «أنا من قرية صغيرة في نيويورك، الجميع هناك يستخدم النقل العام، ولا نهتم كثيراً بمظهرنا. وهذا الأمر أقلقني في البداية، ولكن لاحقاً عرفت أنّك تستطيع أن تكون كما أنت في لبنان فهناك مبالغة بالاهتمام بالمظهر والماركات العالمية. ولكن أيضاً يتيح لك هذا البلد أن تكون على طبيعتك، إنّه بلد التناقضات الجميلة، والناس هنا طيّبون». يتفق معظم من التقينا بهم على أنّ لبنان بلد التناقضات، وأنّ الحياة في هذا البلد الصغير ممتعة. «أستمتع في لبنان، فلا مجال للملل في هذا البلد. ولكنني أشعر بأنّ الناس يبالغون في التدخّل في حياتك، فأينما ذهبت تجد من يخبرك ما عليك فعله، لكنّني اعتدت هذا الأمر فطيبة الناس وترحيبهم بك يجعلانك تنسى بعض الأمور المزعجة»، وفق ما يقول جاي وجاسيكا. تشعر فينيسا أنّها جزء من هذا البلد، فقرّرت توثيق حياتها في لبنان في مدوّنة تخبر تفاصيل الحياة فيها بأسلوب بسيط بعيداً من الأحكام، فهي تكتب في هذه المدونة follow the Arabic road عن الحياة اليوميّة، عن سائق التاكسي وعن استحالة المشي على الأرصفة في بيروت، وعن التأقلم مع انقطاع الكهرباء المتكرر في عاصمة مليئة بالحياة. أمّا كريم الذي كان والده أستاذاً للعلوم السياسية في الجامعة الأميركية ببيروت، فيصف لبنان بـ «ديزني لاند» تستطيع الاستمتاع فيه طالما لديك المال، لكن «يبقى السؤال الأهم، كيف يعيش الفقراء هنا؟».
مشاركة :