وأنت تسير فى حى السيدة زينب، تحديداً على بُعد أمتار قليلة من مسجد أم البشاير، يتسنى للمار رؤية مشهد وكأنه خرج من فيلم قديم ولم يعد.. لوحة مُتهالكة لقهوة قديمة تحمل اسم «نادى الشطرنج»، أصوات «طبى الشطرنج» تمتزج بأصوات قرقرة الشيشة، بينما نضغى رائحة سجائر «السوبر» فى أيادى مُريدى اللعبة ذوى المعاش، يجلسون فى رحاب «حس» الست القادم من راديو قديم مُعلق أعلاه، وهى تشجُن فى «صحوا نار الشوق فى قلبى وفى عيونى» فهنا كان ومازال مُلتقى مُحبى رياضة الشطرنج. «قهوة نادى الشطرنج» يرجع عُمرها إلى 1951، فتحها والد محمد فرج سعيد الشهير بـ«الحاج أحمد»، 66 عاماً، وكيل أول وزارة- على المعاش- فى إحدى الجهات الرقابية، عُمر القهوة من عُمر الحاج أحمد، فتحها والده بهدف أن تصبح مكانا يجمع حريفى ومُحبى رياضة الشطرنج وأن تكون مُلتقى لهم، لتصبح أكبر مكان فى مصر يتجمع فيه أبطال اللعبة وكل من يرغب فى تعلمها ويأتى إليها زوار من جميع أنحاء الوطن العربى. تستقبلك على أعتاب القهوة رائحة الزمن الجميل، فبابها بمثابة خط فاصل بين الدنيا فى الخارج وصراعها، يجلس فيها المُحبون فى مجموعات رباعية وسداسية، يلتفون حول المُتبارزين فى الدور، مُنهمك كل منهم فى التفكير، بينما المُلتفون حولهم تارة تعلو أصواتهم بالتشجيع والتهليل، وتارة أخرى يغلب عليهم الصمت للتعلم من فطاحلة الشطرنج الذين يملأون القهوة. يطُل الحاج أحمد صاحب القهوة، كل يوم مع أذان المغرب على النادى ومُريديه، تسلم المهنة من والده، رغم منصبه، ثم سلمها لأولاده الذين يتبادلون الجلوس مع إنه «علمهم أحسن تعليم»، ويقول الحاج: «القهوة دى من القهاوى القليلة اللى باقية إن ماكنتش الوحيدة اللى بتحاكى تاريخ مصر وبتعكس ثقافتها واهتمامات البلد زمان». ثم يبدأ الحاج أحمد فى السرد باستمتاع وابتسامة لا تُفارق وجنتيه، عندما تأتى ساعة الحكى عن القهوة وتاريخها وما توصلت إليه: «زمان القهاوى كان لها هدف مش مكان يلم الناس، أبويا فتحها عشان تجمع الناس بتوع الشطرنج اللى بيلعب واللى بيتحدى واللى بيعلم ويتعلم، وطبعاً اللعبة دى عظيمة ولعبة ملوك يعنى، دايماً بيجيلنا ناس مستويات عالية وأبطال الجمهورية ومن الوطن العربى كله كمان فى اللعبة». يحارب الحاج أحمد بحفاظه على نمط «النادى» كما هو، ركب الحضارة الذى أصاب القهاوى حديثاً، فيغلق القهوة فى تمام الثانية عشرة صباحاً، ويمنع الجلوس فى الخارج أو تجمعات «الفرجة على ماتش»، ووضع شاشات كبيرة، ويكمل: «فى قهاوى كتير أنضف وأشيك مننا، لكن مفيهاش روحنا، إحنا محافظين على الجو ده ومنعرفش نعمل غيره»، ويضيف: «فى ناس مشاهير كانوا بيجوا هنا وناس بيجوا من محافظات وبلاد مختلفة عشان يتبارزوا.. وفى ناس كمان متطوعة بتعلم الشباب الجديد». فى أحد أركان القهوة تلتف مجموعة من كبار السن والمعروفين فى عالم الشطرنج، كسر معظمهم حاجز الستين من عُمره، ولكن مازالت لمعة الشغف ساكنة بأعينهم، يجلس كل منهم على حافة كرسيه، تغلبه الحماسة فى التشجيع وفى انتظار دوره، يلتفون حول محسن الجبرى، 53 سنة، بطل الجمهورية سابقاً. يأتى محسن القهوة منذ أن كان فى مُقتبل العشرين، شاباً مجذوباً ندهته نداهة اللعبة، كان يجلس بجانب فطاحلة اللعبة يتعلم منهم ثم يبارزهم، إلى أن أصبح بطل الجمهورية لعام 2012، ويقول: «كل الناس تعرفنى هنا، اللعبة دى فى دمى والقهوة كمان، محدش بيحب أوبيلعب شطرنج ميعرفش المكان هنا، وكل يوم إحنا هنا بنتجمع ونعمل تحديات ومسابقات وبيجى ساعات شباب عاوزين يتعلموا منى أو يلاعبونى وبستجيب لهم لأنى اتعلمت كده».
مشاركة :