تحولت الفكرة القائلة بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد تفوق على عدد من الرؤساء الأميركيين وعزز بشكل كبير من مكانة بلاده على الصعيد العالمي إلى اعتقاد سائد على نطاق واسع في السنوات الأخيرة.ويعتقد كثير من المحللين والساسة الغربيين أن بوتين أدار السياسة الخارجية بمهارة فائقة، إذ انتقل من مجرد لاعب تكتيكي إلى مخطط استراتيجي من الطراز الأول، وحقق سلسلة من الانتصارات الكبرى في مضمار الدبلوماسية الروسية - من ضم شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا إلى تعزيز حكومة الديكتاتور السوري بشار الأسد.أيضاً، يظهر هذا الاتجاه بوضوح كبير داخل روسيا ذاتها، حيث كشف آخر استطلاعات الرأي أن ما يقرب من 90 في المائة من الروس يولون ثقة عميقة في إدارة بوتين للشؤون الدولية.إلا أن التساؤل هنا: هل هذا التفسير دقيق؟ في رأيي الشخصي، إنه يكاد يغفل تماماً التكاليف طويلة الأمد للسياسات الخارجية في أجندة بوتين - وثلاث سياسات منها على وجه الخصوص سوف تحمل تكاليف باهظة.أولاً: عاون التدخل العسكري الروسي في سبتمبر (أيلول) 2015 بالفعل في ضمان استقرار نظام بشار الأسد المتصدع، وحال دون وقوع هجوم محتمل على الأراضي الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية في غرب البلاد، وضمن الوجود الروسي المستدام في المنطقة هناك. كما أن التدخل الروسي ضمن لموسكو أيضاً أن تكون اللاعب المهم في المفاوضات المستقبلية بشأن المصير السوري.مع ذلك، في حين أن بشار الأسد يحظى في الآونة الراهنة باليد العليا في ميدان القتال، فإنه لا يزال هناك عشرات الآلاف من قوات المعارضة الساخطين والمدججين بالسلاح ممن لن يقبلوا بقيادته مرة أخرى. كما أن هناك الآلاف من مقاتلي «داعش» و«القاعدة» الذين، على الرغم من الانتكاسات التي منوا بها خلال المعارك الأخيرة، من المرجح أن يواصلوا العمل العسكري داخل سوريا، مما يعني وجوب استمرار القوات الروسية هناك لمواصلة القتال في المستقبل المنظور - وذلك بتكاليف فادحة والمزيد الضحايا.وفي الأثناء ذاتها، وكان من شأن حملة القصف العشوائي حول مدينة حلب في العام الماضي، تركز أنظار الجماعات المتطرفة في سوريا على موسكو، ما يكفل استمرارها على رأس قائمة أهداف الجماعات الإرهابية. ويضاف إلى ذلك، واستناداً إلى مشاركتي الشخصية في اجتماعات مجلس الأمن الوطني الأميركي في ذلك الوقت، شكلت الخسائر المدنية الفادحة للعمليات العسكرية الروسية في الداخل السوري حجر عثرة أمام أي تعاون في مجال مكافحة الإرهاب بين القوات الروسية والأميركية داخل سوريا. (لقد غادرت وظيفتي بغية الحصول على زمالة ممولة حكومياً في وقت سابق من هذا العام، وهذه الآراء تعبر فقط عن رؤيتي الشخصية للأمور ولا تعكس موقف الحكومة الأميركية من الأوضاع بحال).علاوة على ذلك، ما دام بقي بشار الأسد على رأس السلطة، فمن غير المرجح للمجتمع الدولي أن يوفر المساعدات الكبيرة لإعادة إعمار سوريا، ما يفرض على روسيا تحمل جزء على الأقل من تكاليف إعادة إعمار البلاد، بهدف ضمان استمرار الجدوى السياسية لبشار - أو من سيقع عليه الاختيار لخلافته في رئاسة البلاد.وأخيراً، أثار التعاون الروسي مع إيران في سوريا قلق دول الجوار في منطقة الشرق الأوسط، وتسبب في توتر واضح في العلاقات الإسرائيلية - الروسية. وتعكس العمليات العسكرية التي نفذتها إسرائيل في الفترة الأخيرة داخل سوريا المخاوف العميقة التي تساور الأولى حيال وجود إيران على حدودها، وثمة مخاطر متزايدة لاندلاع مواجهة بين إسرائيل والقوات المدعومة من إيران داخل سوريا. ويدفع ذلك بالقوات الروسية نحو وضع بالغ الخطورة بالنظر إلى قربها الشديد من الجماعات العاملة بالوكالة لحساب طهران داخل ميادين القتال. وتبقى نقطة واحدة أخيرة: بالنظر إلى النفوذ الإيراني الكبير على الأرض، يبدو أن التدخل العسكري الروسي قد كفل أن الدور الأكبر في صياغة المستقبل السوري سيكون من نصيب طهران، وليس موسكو.فيما يتعلق بالقرم وأوكرانيا، تحرك بوتين بسرعة في أعقاب الثورة الأوكرانية عام 2014 والإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش وضم شبه جزيرة القرم ومنع أوكرانيا من مواصلة التقارب مع الغرب. ومن خلال تطبيق أساليب الحرب غير المتكافئة وتوفير العتاد العسكري للانفصاليين المدعومين من روسيا في شرق أوكرانيا، نجح بوتين في تأمين النفوذ الروسي في منطقة دونباس (والتي تعتبر القلب النابض لقطاع الصناعة الأوكراني منذ فترة طويلة).ومع هذا يبقى التساؤل: ماذا كان الثمن؟ لقد نجح بوتين في تحويل جيل كامل من الشعب الأوكراني ضد روسيا - إذ تظهر آخر استطلاعات للرأي هناك أنه في حين 95 في المائة من الشعب الأوكراني كان ينظر إلى روسيا نظرة إيجابية حتى وقت قريب، تحديداً عام 2010، فإن هذه النسبة تقترب الآن من 40 في المائة فقط على أفضل تقدير، وهي من دون شك أدنى من ذلك بكثير في غرب أوكرانيا. كما أن التدخل الروسي في أوكرانيا قد أثار أيضاً سلسلة من العقوبات الاقتصادية العقابية من جانب الولايات المتحدة وأوروبا، والتي عند اقترانها مع الهبوط الحاد في أسعار النفط العالمية، ألحقت أضراراً بالغة بالنمو الاقتصادي الروسي، عصفت بقيمة الروبل، وسببت تآكلاً شديداً في الأجور الروسية الحقيقية. ومن المتوقع لروسيا أن تعود إلى مسار النمو المعتدل في العام الحالي (بنحو 1.5 نقطة مئوية) ولكن هذا المعدل لا يمكنه تعويض الانكماش الاقتصادي الروسي في السنوات الأخيرة.كما أن العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا جددت المخاوف داخل الولايات المتحدة وحلف «الناتو» بشأن حقيقة النوايا الروسية في أوروبا، مما حفز من زيادة الإنفاق الدفاعي داخل دول الحلف، وإعادة نشر اللواء المدرع الأميركي في أوروبا، ونشر كتائب بريطانية وكندية وألمانية على مقربة من الحدود الروسية في لاتفيا، وليتوانيا، وإستونيا. وفي كثير من المناحي، فإن العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا تساعد في تحويل حلف «الناتو» إلى الصورة التي لطالما خشي منها بوتين.وعلى نحو مماثل، فإن جهود بوتين الموثقة للتأثير على الرأي العام والانتخابات في الولايات المتحدة وأوروبا نجحت في خلق حالة من الفوضى، بيد أنها قد كلفت روسيا في المقابل الثقة بها حتى صار من المستحيل الآن إقامة أي شكل من أشكال التعاون مع موسكو، حتى في المجالات ذات الاهتمام المشترك مثل الحملة العالمية لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي.وفي ألمانيا، تفاقمت المخاوف بصورة كبيرة إزاء احتمالات التدخل الروسي في الانتخابات لدرجة أن رئيس جهاز الاستخبارات الوطني وجه الاتهامات العلنية ضد روسيا بمحاولة التأثير على نتائج الانتخابات والعمل على زعزعة استقرار ألمانيا من خلال عمليات سيبرانية. وقد شرعت ألمانيا ودول أوروبية أخرى في تنفيذ برامج لتعزيز الدفاعات السيبرانية، وحماية البنية التحتية الحيوية، وضمان المقدرة على الاستجابة السريعة لمثل هذه الهجمات - ومن الواضح تماماً أن المبادرات الأوروبية الحديثة والإمكانات الأخيرة موجهة إزاء روسيا بشكل مباشر.في الوقت نفسه، فإن الأداء القوي لأحزاب تيار الوسط في الانتخابات الأخيرة في هولندا وفرنسا على الرغم من حملات التدخل الروسية، لا توحي بدفء قريب في العلاقات ما بين أوروبا وروسيا ولا بالتخفيف من حزمة العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو في أي وقت قريب.وعليه، كيف تبدو إنجازات بوتين على صعيد السياسة الخارجية؟فيما يتعلق بسوريا وأوكرانيا، نجح بوتين في تأمين درجة من النفوذ الروسي في البلدين. كما أنه استغل وبذكاء واضح النفوذ الروسي في سوريا لإقامة علاقات جديدة تماماً مع تركيا، ولا سيما من خلال التعاون على طول الحدود التركية. وإذا تمكن بوتين في خاتمة المطاف من خلق هوة حقيقية بين تركيا وحلف «الناتو»، فمن شأن ذلك أن يشكل انتصاراً استراتيجياً معتبراً لصالح موسكو.ولقد ساعدت التدخلات الروسية في الانتخابات بوتين كذلك على تغذية المخاوف لدى الغرب بشأن نزاهة ومصداقية العملية الديمقراطية الوطنية، وهو من أهم أهداف أجندة بوتين للسياسة الخارجية. ومع ذلك، فإن تصرفات بوتين قد تسببت بتوريط روسيا في سلسلة من الصراعات التي تبدو لها في الأفق نهاية واضحة، وأيقظت المخاوف الكامنة حيال روسيا داخل الغرب، وعطلت التجارة والاستثمار والتعاون العلمي مع الولايات المتحدة وحلفائها (وهي من المجالات المهمة للغاية لنمو الاقتصاد الروسي على المدى البعيد)، كما أنها أثارت سلسلة متصاعدة من ردود الفعل الأمنية من جانب الولايات المتحدة وحلف «الناتو».لذلك، على الرغم من المكاسب الكثيرة التي جناها بوتين، فإن فاتورة سياساته الخارجية لم تُـسدد بالكامل حتى الآن، ومن المرجح للتكاليف النهائية أن تترك الشعب الروسي في هوة عميقة من الخسارة والندم.* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
مشاركة :