أ. د. عيادة بن أيوب الكبيسي * خير ما نستفتح به هذه المقالة قوله تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين}، (الشعراء: 192-195).آيات قرآنية محكمة، لها نظائر متعددة دائرة في الكتاب العزيز، تتجلى من خلالها أهمية هذه اللغة، ويتبين ما لها من علو منزلة، ورفعة مكانة، وسناء متألق، وكيف لا وقد وسعت كتاب الله العظيم؟ وبذلك ندرك أن هذا الكتاب الذي أنزله الله تعالى بهذه اللغة، لا يمكن أن يفهم إلا عن طريق تعلمها وإتقانها.ومن هذا المنطلق ذهب جمع من أهل العلم على رأسهم الإمام مالك بن أنس، والإمام محمد بن إدريس الشافعي، والإمام الشاطبي والإمام أبو حيان والإمام الزركشي وغيرهم إلى وجوب تعلم هذه اللغة، وقد أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن والبيهقي وابن عبد البر عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (تعلموا اللَّحْن والفرائض والسنن كما تعلمون القرآن)، والمراد باللحن هنا: اللغة والنحو.حكى بعضهم أنه سمع شيخاً يعرب لتلميذه كلمة {قيما} في قوله تعالى: {ولم يجعل له عوجاً قيماً}، (الكهف: 1-2)، أنها صفة لعوجا!! قال: فقلت له: يا هذا، كيف يكون العوج قيماً؟!! وترحمت على من وقف من القراء على ألف التنوين في عوجاً، وقفة لطيفة ليدفع هذا الوهم.وأمثلة هذا كثيرة منتشرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.ومن أمثلة الفهم الخاطئ للإعراب أن رجلاً ذا شيبة جاءني وأنا صغير فقال لي: يا شيخ إن آية في كتاب الله تعالى قد دوخت رأسي، قلت له: خيراً، وكيف ذلك؟ قال: أسألك أليس الله تعالى يحب الأبرار؟ قلت: بلى، جعلنا الله تعالى منهم، قال: فكيف يقول تعالى: «وما عند الله خير للأبرار؟» كيف نفى الخير عنهم؟فقلت له بهدوء وابتسامة: {ما} هنا ليست نافية، إنما هي اسم موصول، والمعنى: والذي عند الله خير للأبرار، ففرح كثيراً رحمه الله تعالى وتنفس الصعداء وقال: جزاك الله خيراً، لقد أرحتني مما كنت أعانيه. رحم الله تعالى هذا الشيخ إذ سأل، وهكذا ينبغي أن يصنع كل من استشكل عليه فهم شيء من كتاب الله تعالى، ونذكر هنا قاعدة فيها نفع للجميع إن شاء الله تعالى وهي: أن كل ما أشكل عليك من كتاب الله تعالى، أو صعب عليك فهمه، فاعلم أنك إنما أوتيت من جهلك، فما عليك حينئذ إلا أن تبحث وتسأل عمن يزيل عنك ذلك الإشكال، ويفهمك ما لم تفهمه، ونذكّر هنا بما قاله القاضي ابن سريج الفقيه المعروف رحمه الله تعالى، وذلك أنه سأل رجلٌ عن قوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد}، مع قوله تعالى: {وهذا البلد الأمين}، كيف أخبر أنه لا يقسم به، ثم أقسم به، أليس في ذلك تناقض وتعارض؟ فقال ابن سريج في توضيح الحقيقة وتجلية الأمر: أعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحضرة رجال وبين ظهراني قوم، وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزاً، وعليه مطعناً، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به، وأسرعوا بالرد عليه، ولكن القوم علموا وجهلت، فلم ينكروا ما أنكرت، ثم قال له: إن العرب قد تدخل {لا} في أثناء كلامها وتلغي معناها..)، فيكون المعنى في الموضعين: أقسم بهذا البلد، فهو معنى واحد ولا تعارض ولا تناقض.وكلام ابن سريج رحمه الله تعالى هذا ينفع في درء كل ما يوهم أن فيه تعارضاً، مما يبدو في ظاهر بعض الآيات الكريمة، وبعد أن يعلم القارئ هذه القاعدة، ويوقن بما فيها، يبحث ويسأل عن كل ما أشكل عليه، وسيهديه الله تعالى إلى وجه الحق في ذلك، ويزول الإشكال بالكلية، والحمد لله رب العالمين.إن هذه الأمثلة المتقدمة وغيرها كثير، تدل على أن الجهل بهذه اللغة يوقع في تخبط كبير في الفهم وإدراك المعاني، ويؤسفنا أن نرى هذا مستشرياً في أيامنا هذه بين كثير من الناس، حتى بين طلبة العلم منهم، إلى درجة مخيفة ومرعبة، فترى الطالب في الدراسات العليا يخطئ في أبسط مسائل النحو والإعراب، ومما حصل عدة مرات ومع أكثر من طالب: أنه يكتب هذه العبارة: (المبحث الأول، وفيه مطلبين)، فنقول له: اقرأ يا بني فيقرأها كذلك، ونطلب منه أن يعيد القراءة ويتأمل فيقرأها كذلك، يجهل أن يقول: وفيه مطلبان!!هذا مثل حي من الواقع، مشفوع بأمثلة متعددة، وهي ظاهرة خطِرة، تقتضي تضافر الجهود لمعالجة هذه المشكلة. * أستاذ التفسير وعلوم القرآن
مشاركة :