حاوره: محمدو لحبيب رغم أنه لم يولد فيها، إلا أنه كأي فلسطيني لا يريد الانكسار أمام منطق القوة وتاريخيتها الذي يفرضه الاحتلال الصهيوني، لذلك قرر الكاتب الروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله أن يشكٍل فلسطين هناك في منفاه، وقرر أن يستخدم خياله السردي المبدع كي يجعل الوطن يعيش في نفس كل فلسطيني لاجئاً كان أم ماكثاً في الأرض ومقاوماً ليوميات الاحتلال.إبراهيم نصر الله المولود في عمان بالأردن عام 1954 من أبوين فلسطينيين، هُجِّرا من أرضهما قرية البريج غربي مدينة القدس عام 1948م، ورث تلك المرارة والغصة، وذلك الارتباط العابر للحدود وللشتات وللجوء بالأرض الأصلية. «الخليج» التقته في إطار مشاركته في المعرض وسألته عن المفارقة الإبداعية التي أسس عليها مشروعه الروائي الملهاة الفلسطينية، وعن مواضيع عديدة تتعلق بالرواية و علاقتها بإعادة كتابة التاريخ. *يلاحظ من خلال كل رواياتكم تقريباً غلبة اللغة الشعرية الجذابة في مضامين السرد عندكم، إلى أي مدى تسمحون للشاعر إبراهيم نصر الله أن يؤثر على الروائي إبراهيم نصر الله في نص واحد؟- اللغة قيمة كبيرة، وأهمية الأدب تكمن أيضاً في قدرته على تطوير اللغة، وجعلها أكثر شفافية واتساعاً، وهذه مهمة الشاعر والأديب بشكل عام، ما يحزن هو الفقر اللغوي في كثير من الروايات، أو عدم إدراك المسافة بين اللغة الإنشائية واللغة الشعرية.بالنسبة لي، لم يعد هذا الأمر مطروحاً، بعد ثماني عشرة رواية صدرت لي حتى الآن، لقد وجدت معادلتي الخاصة، ولا أرى هناك شكوى من ذلك، بل أرى فرحاً، لكن البعض يفضلون التقشف التام في اللغة، ومن يريد كل هذا التقشف يمكن أن يكتفي بقراءة أي شيء آخر غير الأدب. *كتبتم سلسلة روايات أسميتموها «الملهاة الفلسطينية»، يبدو أن في العنوان نوعاً من المفارقة مع الواقع، لماذا الملهاة بدلاً من المأساة؟- حين تصف حادثة أو واقعة أو قضية بالمأساة، فأنت تحكم عليها بالهزيمة، في وقت لم تزل فيه المعركة مستمرة؛ لأن المأساة تُضمِر هزيمة في داخلها دائماً، وفي صراعنا مع الصهيونية الممتد منذ أكثر من مئة عام، لم يزل الأمل هو الذي يقودنا، والإيمان، والعمل، كي لا تكون النهاية غير تلك التي نتمناها.في معنى (الملهاة) الذي يحمل دلالات مختلفة تماماً عن معنى (الكوميديا) في مراجعها اللغوية العربية، تنفتح معانٍ كثيرة عميقة في بلاغتها وجمالها، مثل: لَها بالشيء لهوا: أولع به، لَهَا، لِ هْيانا عن: إذا سلوتَ عنه وتركت ذكره، وإذا غفلت عنه، ولَ هَت المرأةُ إلى حديث المرأة: أنِست به وأعجبها، وقول الله تعالى (لاهية قلوبهم)، أي متشاغلة عما يُدعَونَ إليه، وقال (فأنت عنه تلهّى) أي تتشاغل، وتلاهوا: أي لها بعضهم ببعض، ولهوت به: أحببته، والإنسان اللاهي إلى الشيء: الذي لا يفارقه، وقال: لاهى الشيء أي داناه وقاربه، ولاهى الغلامُ الفطامَ إذا دنا منه، واللّهْوةُ واللّهْيةُ: العَطِيَّة. وقيل: أفضل العطايا وأجزلها. *في رأيكم إلى أي حدّ تسهم الرواية في إعادة كتابة التاريخ من منطق الضحية، لا المنتصر؟- الرواية هي الفعل الفردي/ الجماعي الشعبي، لكتابة الحكاية الحقيقية بعيدًا عن سطوة المنتصر، وقدرته؛ فهي تعيد بناء المدن والقرى التي تمّ هدمها، والبشر الذين تمّ قتْلهم للحياة ثانية، ولعل أجمل ما حدث بالنسبة للفلسطينيين، رغم تشريدهم في بلادهم وخارجها، أنهم استطاعوا أن يسردوا حكايتهم، سرداً وشعراً وفناً، رغم الواقع القاسي المحيط بهم، ورغم النفوذ الهائل الذي يتمتع به عدوهم المنتصر. إعادة كتابة الحكاية، وما يرافقها من تصميم، واستمرارية، وإبداعية، هي التي تجعل نصر عدونا ناقصاً، ولذا فإنه بعد كل هذه العقود من ممارسته للقتل والاجتياحات، لم يمنحه الشعب الفلسطيني فرصة أن يتوقف ليحتفل بانتصاراته الكثيرة، لأنها ناقصة.*في إحدى روايات تلك السلسلة «زمن الخيول البيضاء»، ثمة تقسيم لافت من الناحية الرمزية للرواية إلى ثلاثة كتب هي «الريح» و«التراب» و«البشر»، كيف تفسرون إبداعياً العلاقة بين هذه المكونات الثلاثة في بنية الرواية وموضوعها الفلسطيني المؤلم؟.- من الصعب على الكاتب أن يفسّر عمله، أو يشرحه، فهذه مهمة الناقد والقارئ بشكل عام. مهمة الكاتب الرئيسية أن يكتب بصورة جيدة، بمستويات فنية عالية، تليق بالقضية التي يتناولها، وهذا ما سعيت إليه دائماً في كل ما كتبت، لأن من حق القارئ، ومن حق فلسطين، أن يجدا أعمالاً فنية رفيعة المستوى.هذه الرواية، دُرسَتْ كثيراً، وصدرت في سبع عشرة طبعة عربية، وترجمت، ولكل قارئ قراءته الخاصة بها، ولا يجوز لي ككاتب أن أفسد حرية تلقّي القرّاء للنص عبر حشرهم من تفسيري لها. *عتبة النص الممثلة في عنوان الرواية «زمن الخيول البيضاء» تحيل القارئ إلى استحضار مشرق وزاهٍ للبطولة، أما النص نفسه فزاخر بتأريخ الانكسارات والخيانات وتضييع الأرض، لم جمعتم بين كل ذلك في قالب سردي واحد؟، ما الهدف؟- كثير من الناس كانوا يتوقّعون أن تكون روايات الملهاة الفلسطينية، والتي م نها (زمن الخيول البيضاء) روايات تتغزل بفلسطين وحسب، لكن الكتابة الروائية أكثر تركيباً من هذه البساطة، لأن عليك حينما تكتب، أن تتأمل فلسطين كلها، أحوالها، وأناسها، والظروف المحيطة بها، تطرح رؤياك التي قد لا يطرحها كاتب آخر، حتى لو استخدمت المراجع الحكائية والبحثية نفسها.فلسطين مثلها، مثل أي بلد، أو وطن آخر، خليط شديد من الجمال ومتناقضاته، ولذا كان مشروع الملهاة متنوعاً، وكل رواية فيه، تتناول جانباً مختلفاً من حياة الفلسطينيين، وقضاياهم وحياتهم اليومية البسيطة على مدى الفترة التي يغطيها مشروع الملهاة وهي 250 عاماً، بدءاً من القرن السابع عشر. *رددتم أكثر من مرة مقولة من رواية «زمن الخيول البيضاء» هي: «أنا لا أقاتل كي أنتصر بل كي لا يضيع حقي»، أليست تلك رسالة استحضار للماضي في الواقع الحالي؟- حين تكتب عن الماضي، عليك أن تكتب عنه حقاً، وحين تكتب عن الحاضر أيضاً، أو المستقبل، لكن كل كتابة عميقة ستستدعي أحوال الإنسان في كل العصور، وكل الأزمنة، ولهذا لم نزل نقرأ المسرح اليوناني القديم، والشعر العربي القديم، والملاحم، منذ جلجامش، حتى اليوم، باعتبارها أعمالاً تعبر عنا وعما يدور في داخلنا، ما نخاف منه وما نحلم به. **مأساة قرية «الهادية» تبدو وكأنها بدأت للتو في آخر سطر من رواية «زمن الخيول البيضاء»، فهي تحيل مباشرة إلى رواية يكتبها الواقع هي رواية اللجوء، إلى أي حد أنتم متفقون مع مصطلح «أدب اللجوء»؟- لا أعرف ما مدى دقة تعبير أدب اللجوء، فهناك أدب فلسطيني يتأمل الحالة الفلسطينية ويحاورها من مختلف جوانبها، وهو أدب متنوّع، على مستوى الفن والمواضيع الكثيرة المطروحة، وربما يكون مصطلح أدب اللجوء غير قادر على تكثيف الكتابة الفلسطينية، فهناك من هم داخل وطنهم ولكنهم لاجئون فعلاً، لا يستطيعون الوصول إلى قراهم، مثلهم مثل أولئك الذي طردوا منه. *في روايتكم «حرب الكلب الثانية» اخترتم قالباً مختلفاً فانتازيا، وخرجتم من أجواء الملهاة الفلسطينية، هل يعتبر ذلك انتهاء لمشروعكم السردي في تتبع التاريخ الفلسطيني، أم هي مجرد استراحة محارب؟- حرب الكلب الثانية، رواية تتأمل مستقبلنا العربي انطلاقاً من واقعنا في السنوات الأخيرة، والدمار الذي لحق بنا بسبب التسلط والقمع والعنف والتطرّف، وهي واحدة من روايات مشروع (الشرفات) الذي صدر منه خمس روايات قبل هذه الرواية، أما مشروع الملهاة؛ فهو مشروع مفتوح، لأن القضية الفلسطينية مفتوحة، ومستمرة، وسيصدر في العام المقبل ضمن هذا المشروع، عمل يضم ثلاث روايات متصلة ومنفصلة، الواحدة عن الأخرى، وفيها تناول لزوايا أخرى من الحكاية الفلسطينية على مدى أكثر من سبعين عاماً.*البعض يرى أن الرواية كشكل أدبي لا ينبغي أن تحمل رسائل معينة للجمهور، وأن مهمتها مختلفة، هل تتفقون مع هذا الرأي؟ - الرواية هي أوسع نص يمكن أن يحمل رؤى كاتبه في الحياة، ورؤى الكاتب رسائله، وإن كانت تأتي بطرق غير مباشرة، إنها رؤاه في السياسة، الاجتماع، الحياة، الموت، المصير، الحب، العدل، الظلم..الخ، وكل القضايا التي أرّقت البشرية ولم تزل، الرواية ليست حكاية، إنها الحكاية ممتلئة بالرؤى حول ماضي الإنسان، حاضره، ومستقبله.
مشاركة :