«يثير الصراع الأميركي - الإيراني في الوقت الراهن «شهية المحللين السياسيين ومعهم المؤرخون الذين يحاولون الربط بين ما يجرى راهناً وبين جذور الصراع بين الشرق والغرب عبر العصور. فعندما كانت القبائل العربية وممالكها في العراق وسورية واليمن تتنازع في ما بينهما، كان العديد منها يستنجد بالإمبراطوريتين الفارسية والرومانية. لكنّ العرب الموحدين تحت راية الإسلام هزموا الإمبراطوريتين، حتى أصبحت الإمبراطورية الإسلامية، وهي الوجه العسكري لأنظمة الحكم السياسية (الخلافة الراشدية والأموية والعباسية) أكثر سيطرةً منهما على بقاع العالم. يستدعي إذاً الصراع الأميركي- الإيراني على بلاد العرب ذاكرة التاريخ في أحقاب الصراع المديد بين الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية (البيزنطية)، اللتين استمرت الحروب المتواترة بينهما طوال سبعة قرون في سياق حملات حربية متبادلة على مراكز نفوذ كلتيهما. مراكز النفوذ المتنازع عليها عبر التاريخ كانت تقع في نطاق ممالك ومناطق القبائل العربية المتشرذمة، بينما كان الفرس متمترسين في إمبراطورية موحَّدة بالسيف والثقافة الحضارية المتسيدة، وكذا الروم المتشكلون من ديانة جامعة (المسيحية الشرقية) وقد ورثوا الحضارة الإغريقية الوثنية. وقبل الصراع الفارسي- الروماني، كانت الحضارة الإغريقية الوثنية قد خاضت بدورها ما قبل الميلاد حروباً متبادلة مع الحضارة الفارسية سجلتها أساطير ومسرحيات اليونان التراجيدية، واستخدمتها هوليوود صانعة أساطير الإمبراطورية الأميركية (روما الحديثة) كما في فيلم «300» حيث قاد ملك إسبرطة 300 محارب من مملكته خاضوا قتالاً حتى الموت ضد جيش الفرس المكون من مئة ألف مقاتل، وقد تمكّن مقاتلو إسبرطة الثلاثمائة من صدّ الغزو الفارسي لبلاد الإغريق. خارطة الصراع الفارسي- الروماني في مجال جغرافيا العرب تدور حول نهري الفرات ودجلة (العراق وسورية الكبرى)، وصولاً إلى اليمن البعيد. وكانت القبائل والممالك العربية تستنجد بالفرس أو الروم. من ممالك سبأ وحضرموت في اليمن إلى مملكتي المناذرة والغساسنة في العراق وسورية. كانت مملكة المناذرة التي يعود سكانها الوثنيون إلى قبائل اليمن تقع جغرافياً على نهر الفرات بالعراق وعاصمتها «الحيرة»، وتقع جيوسياسياً في المجال الحيوي لهيمنة الفرس من القرن الثالث الميلادي حتى الفتح الإسلامي في منتصف القرن السابع. مقابلها في سورية في الفترة نفسها، كانت مملكة الغساسنة وعاصمتها «بصرى الشام» تخضع لهيمنة الروم ويعتنق سكانها المسيحية. وكان التقاتل متواتراً بين المناذرة الوثنيين أتباع الفرس المجوس والغساسنة النصرانيين أتباع الروم. إلى أن حدثت موقعة ذي قار الحاسمة بمنطق الابستمولوجيا التاريخية بين جيش الفرس الجرار وائتلاف واسع من قبائل العرب. استمر القتال يومين دمويين لينتهي بهزيمة نكراء لجيش الفرس الإمبراطوري. روايات قديمة كثيرة روت أن وقعة ذي قار حدثت عشية ولادة نبي العرب محمد بن عبدالله. بينما يذكر الأصفهاني في كتابه الأغاني أنها وقعت بعد وقعة بدر بأشهر والنبي بالمدينة. فلما بلغه ذلك قال: «هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا». بعد سنوات قليلة تمكّن العرب المُوحَّدون تحت لواء الإسلام من خوض حربين في الوقت ذاته للقضاء على إمبراطوريتي الفرس والروم العتيدتين والتوسع في السيطرة على العالم بمنطق «الفتح الإلهي» حتى أصبحت الإمبراطورية الإسلامية أكثر سيطرة على بقاع العالم من الإمبراطورية الرومانية. مع نهاية 2017، لدينا إمبراطورية فارسية ناشئة بحشوة إسلامية مذهبية على شفا امتلاك سلاح نووي وتملك نفوذاً سياسياً وعسكرياً طاغياً في حكومة العراق وميليشيات الحشد الشعبي. وشريكة شبه مهيمنة على مصير نظام الأسد العلوي في سورية بمعية «حزب الله» مقابل تطلع أميركي لصد التمدد والنفوذ الفارسي في المنطقة. ثم هناك التدخل الروسي الأرثوذكسي في تحالفه الانتهازي (تكتيكيا) مع الإسلام الشيعي، في مواجهة روما الجديدة (البروتستانتية) نقلاً للصراع من الرقعة الأوكرانية إلى رقعة البلاد العربية. لا يعيد التاريخ نفسه في التفاصيل، لكنه يحمل في جوهره أصل البذرة- الفكرة. العرب غائبون وبالأحرى عاجزون منذ قرون عن صنع تاريخهم في مفهوم الدولة الأمة. فهم موضوع لصناعة تاريخ المتصارعين على حساب وجودهم باسم محاربة «الإرهاب». هم من جديد قبائل متشرذمة في هيئة دول مهلهلة على هامش الحداثة، بينما ذي قار الذي كان في الأصل بئر ماء صار بئر نفط. لكن كل المؤشرات تدل على أن الصدام المقبل بين إمبراطوريات الشرق والغرب، لطالما نشأ عنه نهوض عربي يفوق كل الإمبراطوريات المتصارعة على مصير منطقة العرب ونفوذهم، ويبقى أن «الحافز» الحضاري الذي قد تنشأ عنه النهضة الحضارية المقبلة، غير قابل للتكرار (الرسالة المحمدية) إذ لا نبي بعد رسول الله صلى الله وعليه وسلم، فكيف سيرسم العرب ملامح إمبراطوريتهم المقبلة؟ وعلى حساب من؟
مشاركة :