الرقة – هيثم مسلم | مضى ما يقارب الشهر منذ أن أعلنت قوات سوريا الديموقراطية (قسد) والتحالف الدولي ضد تنظيم داعش تحرير الرقة في سوريا، لكن الجراح التي فتحها التنظيم في جسد المدينة لم تلتئم بعد، لا سيما ممارساته الإرهابية ضد الأطفال والنساء. انتشر الكثير من مشاهد الأطفال وهم يمتشقون السيوف ويجزون الرقاب، ومواقع عدة كانت تتناقل المشاهد مشدوهة من هولها، ذلك أن العقل لا يستطيع أن يتصور الطفل إلا ملاكاً على الأرض، ولا يمكن أن يكون قاتلاً أو سفاحاً لدى القتَلة، وها هي أوكار الإرهاب دُكَّت دكاً، فأين هم هؤلاء الأطفال؟ أبناء مَنْ كانوا؟. ولكي لا تبقَ تلك الأسئلة من دون إجابات، توجهنا إلى بلدة عين عيسى شمال الرقة، حيث تنتصب خيام النازحين وتتجاور مع أخرى أقامتها قسد لإيواء بعض الأسر ممن وقع معيلوها الدواعش في قبضة قوات قسد وبالمثل في تلك الخيام، بعض من هؤلاء الأطفال القَتَلَة، الذين كان داعش يطلق عليهم لقب أشبال الخلافة كان أبو المجد، بشعره الأشعث وهندامه الفوضوي وعمره المراهق، كان يتحرك بين تلك الأسر الممنوعة على الإعلام، وكأنه ديك يحرس مضارب صياحه، هو أحد هؤلاء الأطفال الذين أسماهم التنظيم زورا و بهتانا «أشبال الخلافة»، أجرينا لقاء مع أبو المجد، الطفل الشبل القاتل، ولم يكن لقاء صحافيا بقدر ما كان لقاء للتعارف وتبادل أطراف الحديث مع حالة طالما شغلت الأذهان. يسهب أبو المجد بالحديث – بصوت جهوري – كأنه يقص علينا فيلماً سينمائياً، متطرقاً إلى المعارك التي شارك فيها، والساحات التي شهدت صولاته وجولاته، ويقول إنه كان مع التنظيم في دمشق وريفها، وفي حمص وريفها، ولم يحرم دير الزور من صولاته، حيث كان هناك في بعض المعارك، لكنه ختم (جهاده) في دوار الدلة وسط الرقة، كآخر العهد بالقتال في صفوف التنظيم، حيث رابط على مشارف هذا الدوار شهراً، مستخدما رشاشه الكلاشنيكوف. أبو المجد لم يتجاوز ربيعه الرابع عشر، لكن الفصول الأخيرة من حلقات عمره كانت خريفاً، فيداه وهو يلوح بهما أثناء الحديث ويحركهما، تكشفان عن احتمالية العمر الأربعيني، كذلك صوته المخشوشن، في هذا العمر المتسم بالتحول بيولوجياً، كل هذا، إضافة إلى الانحراف الذي أصاب لكنته الشاوية، وهي لهجة محلية في ريف الرقة، تتسم بالبساطة والحنان، فقد فَقَدَ أبو المجد ملامح هذه اللهجة واكتسب لغة داعشية خاصة بهم، هي خليط من مصطلحات مغربية (تونسية وجزائرية) وبعض ألفاظ الفصحى، باختصار، أصبح أبو المجد مسخاً لا هوية محلية له، نتيجة تشويه الإرهاب لطفولته. غسلوا دماغه محمد رمضان الاسم الحقيقي لأبي المجد، الذي ورثه عن عائلته، واستبدل به «داعش» لقباً عادة ما يكون دالاً على صلافة وجبروت، فلكل امرئ من اسمه نصيب، وأراد داعش ان يرهب الناس بالأسماء. سقطت قرية محمد رمضان في قبضة التنظيم، مثل غيرها من القرى الفقيرة البائسة في خصر الشمال من الرقة، واستولى داعش في قريته أولا على المدرسة التي كان يتلقى فيها الطفل دروسه، ويخطو من ساحاتها أولى خطواته في التحصيل العلمي خارج أحضان أبويه، وفي ذات المدرسة، بدأ داعش مع هؤلاء الأطفال مسلسل تجنيدهم وترويضهم وضمهم لصفوفه كأشبال لخلافته المزعومة. محمد أخبرنا أن والده كان يعمل في البناء كعامل يكد لتأمين قوت العائلة، لكنه عاد إلى القرية وقرر الانضمام إلى داعش، هروبا من الفقر الذي لطالما لازمه، ويضيف: «والدي كان يعتقد أن داعش سينقذه من بؤس الفقر والحاجة، ومثلما قرر الانضمام، شجعني أنا أيضا على الالتزام بالدورات الشرعية التي يقيمها التنظيم في المدرسة، وهذا الأمر لعب دورا مفصليا في انضمامي إلى أشبال الخلافة». حدثنا محمد أنه انتقل من الدورات الشرعية في مدرسة قريته إلى مستوى الدورات المغلقة التي كان يقيمها التنظيم لكوادره، وخضع لدورات تدريبية مغلقة مدتها ستة أشهر، تلقى خلالها دروساً منهجية حول الكفار، وتعذيب الكفار للمسلمين وضرورة الانتقام، وكيفية هذا الانتقام، وكل ذلك عبر الدروس المكثفة وأفلام الفيديو وعرض الصور التي تخاطب الغرائز، وبعد انقضاء مدة الأشهر الستة يكون الطفل الذي دخل الدورة طفلاً يحلم بألعاب طفولته قد أصبح شخصاً مشحوناً بطاقات هائلة من الحقد ودوافع الانتقام، ببساطة يكون قد ترك عقل الطفولة منذ أمد وحصل على عقل جديد مبرمج وفق آليات العمل الإرهابي. دورة عسكرية بعد انقضاء الأشهر الستة، تم إخضاع محمد لدورة تدريب عسكرية احترافية، وخيّروه بين حمص والعراق، حيث تتناثر معسكرات التدريب، فاختار حمص، كما أخبرنا، وعندما سألناه، لماذا اخترت حمص قال لأنها قريبة من قريتي مقارنة مع العراق، كان محمد مع ستين طفلاً من أقرانه ومن مختلف بقاع الأرض في معسكر يقع في مدينة السخنة القريبة من تدمر، وخضع لدورة تدريب عسكرية قاسية بين تلك الجبال والوديان وخرج منها متمرساً في كل فنون القتل والقتال. يقول محمد: «في تلك الدورة التدريبية وذاك المعسكر، لم أكن أفكر في شيء مطلقاً، فقط كنت أستعجل الزمن ليمضي مسرعاً، ذلك أني كنت أتلهف للتخرج والانخراط بسرعة في القتال والحرب، كنت أحلم بالموت في سبيل الله ليرزقني الله الجنة، كنا نخضع لدورات ودروس قاسية جدا وتطبيقات عملية بالأسلحة الحية، وكل من يمتنع عن تنفيذ المهام كانوا يطلقون عليه النار كعقوبة، لقد شاهدت بنفسي الكثير من الأطفال الذين تم إطلاق النار عليهم، بعضهم ماتوا والبعض الآخر نجا. النظرية والتطبيق بعد أن أنهى محمد سنة ونصف السنة في دورة تدريبية، تم فرزه إلى ريف الرقة للانخراط في القتال ضد «وحدات حماية الشعب» الكردية، وقال إن تلك الأعمال القتالية مثّلت العلامة الفارقة في تفكيره، وظهر واضحاً أن النظرية كانت في وادٍ والتطبيق في وادٍ آخر، «فقد أقنعنا داعش بأننا أفضل بني البشر أخلاقاً وإنسانية، بينما أقذر الأعمال ظهرت في أعمالنا القتالية، ورأيت بنفسي أنني لم أكن سوى سالب ناهب لحيوات الناس أو أموالهم». محمد أخبرنا أنه زار أحد سجون داعش ذات مرة ، «وفي أقبية التعذيب تناهى إلى مسامعي أنين التعذيب وصرخات النساء»، ومن كوة في الجدار استرقت النظر فإذا بجلاوزة السجن يضربون بالسياط ظهور النساء المعلقات بالسقف من أيديهن.. يا إلهي، أليس جسد المرأة عورة كما كانوا يقولون لنا؟ فلماذا تلك النساء عرايا في معاقل التنظيم؟!. وفي ذلك القبو المرعب قررت وبشكل نهائي الهروب بعيداً، ولاحقاً، أخبرت أحد رفاقي بنيتي الهرب، حتى لو كلفني ذلك حياتي، لم أعد قادراً على التحمل، يجب أن أخرج من هذا الكابوس». رغم أن محمد مر بالكثير من الأحداث والمآسي في عمره القصير هذا فإن بقايا الطفولة ما زالت عالقة في تصرفاته، وما زال بالإمكان تتبع هذه الطفولة في بعض تصرفاته وحركاته، هو أساساً يقول: «لم يبقَ لدي أمل سوى العودة إلى مدرستي والجلوس على مقاعد الدراسة، كما أرغب في العودة إلى ساحات قريتي واللعب مع أطفال القرية مرة أخرى».
مشاركة :