مسؤولية المهاجرين العرب - مقالات

  • 11/14/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

مأساة الأمَّة العربية تكبر يوماً بعد يوم، ليس بسبب ما يحدث فيها وعلى أرضها فقط، بل نتيجة ما يخرج منها من كفاءات وأموال وأدمغة، بينما نجد أنَّ التكامل الحاصل بين الولايات الخمسين الأميركية، يجعل صاحب الكفاءة أو رجل الأعمال الأميركي يهاجر من ولايةٍ ما، إذا ما اضطربت اجتماعياً أو أمنياً أو اقتصادياً، إلى ولايةٍ أخرى.. كذلك الحال الآن بين دول الاتحاد الأوروبي. فهي أمم تحتفظ بأدمغتها وأموالها وبشبابها وخبراتها، فلا تنضب ولا تُهاجر ثرواتها المادية والبشرية! ولقد توفَّرت للمهاجرين العرب إلى الغرب، فرصة العيش المشترك في ما بينهم بغضِّ النظر عن خصوصياتهم الوطنية، وبالتالي تيسّر إمكان بناء النموذج المطلوب لحالة التفاعل العربي في أكثر من مجال. أيضاً أتاحت لهم الإقامة في الغرب فرص الاحتكاك مع تجارب ديموقراطية متعدّدة من الممكن الاستفادة منها عربياً في الإطارين الفردي والمجتمعي. لذلك فإنّ للمهاجرين العرب خصوصية مميّزة في عملية الإصلاح العربي المنشود، لكن للأسف، فإنّ معظم المهاجرين العرب يعيشون محنة ارتجاج وضعف في هويّتهم العربية وفي هُويّة بلد الهجرة نفسه. فالمهاجرون العرب، أينما وُجِدوا، ينتمون عملياً إلى هويتين: هويّة أوطانهم الأصلية ثمّ هويّة الوطن الجديد الذي هاجروا إليه. وقد تفاعلت في السنوات الأخيرة، خصوصاً عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، جملة تطوّرات انعكست سلبياً على الهويتين معاً. وقد عانى الكثير من العرب في الغرب من هذا الشعور السلبي حيالهم وحيال كل ما يمتّ بصلة إلى العرب والعروبة والإسلام. الأخطر من ذلك عند المهاجرين، هو التشكّك الذاتي الحاصل لدى بعضهم في هويّته الأصلية العربية، ومحاولة الاستعاضة عنها بهويّات فئوية بعضها ذو طابع طائفي ومذهبي، وبعضها الآخر إثني أو مناطقي أو في أحسن الحالات إقليمي. وهذا مردّه طبعاً ما يحدث من تراجع وضعف في مسألة «الهويّة العربية» وطغيان الانقسامات وسمات مجتمع «الجاهلية» على معظم المنطقة العربية، وانعكاس هذا الأمر على العرب عموماً، في داخل الأوطان العربية وخارجها. وحينما تصل سيدة أميركية خلال الحملة الانتخابية الرئاسية للعام 2008 إلى حدّ توصيف باراك أوباما بأنّه «عربي» وبأنها من أجل ذلك «لا تثق به»!، فإنّ ذلك خير دلالة على مدى الجهل المهيمن على معظم الأميركيين في مسائل الشعوب الأخرى وثقافاتها، وفي الخلط الذي يحدث داخل المجتمع الأميركي بين كل عربي ومسلم، وفي عدم التمييز بين الدين والجماعات السياسية والهويات الثقافية والوطنية. هو جهل أميركي وغربي مدعوم منذ عشرات السنين بحملات التشويه والسلبية ضدّ العرب والإسلام، ثمّ جاءت الأعمال الإرهابية في 11 سبتمبر 2001 وما بعدها لتعطيه زخماً كبيراً من الخوف والحذر وعدم الثقة بكل ما هو شرقي أو عربي أو إسلامي. فالفهم الخاطئ للعروبة والدين هو أيضاً حالة مرضية قائمة الآن في المجتمعات العربية كما هي علّة مستديمة في المجتمعات الغربية. إنّ الدور المنشود من المهاجرين يُحتّم عليهم أولاً تحسين وإصلاح ما هم عليه الآن من خلل في مسألة الهوية، ومن ضرورة عدم السلبية تجاه مؤسسات العمل العربي المشترك في الغرب. ولا أعلم لِمَ لا يستفيد المهاجرون من تجارب سابقة في الهجرة العربية للغرب، كان في مقدّمها في مطلع القرن العشرين تجربة الأدباء العرب ذوي الأصول اللبنانية، الذين استوطنوا في معظمهم بمدينة نيويورك الأميركية وشكّلوا في ما بينهم «الرابطة القلمية» بمبادرة من الكاتب والمفكر جبران خليل جبران، حيث كانت هذه «الرابطة» نموذجاً لما نحتاجه اليوم في دول المهجر من منتديات وروابط وجمعيات تقوم على أساس المشترك من الهُوية الثقافية والاهتمامات والعمل، لا على الأصول الوطنية والطائفية والمناطقية. فرغم أنّ كل هؤلاء الأدباء الذين جمعتهم «الرابطة القلمية» كانوا من أصول لبنانية ودينية مسيحية، فإن «رابطتهم» كانت الأدب العربي، فلم يجتمعوا أو يعملوا في أطر فئوية. فكان «قلمهم» من أجل نهضة أوطانهم ووحدة شعوبهم، ومن أجل الإنسان عموماً بغضَّ النظر عن العنصر والدين. كذلك فعل أدباء المهجر آنذاك في أميركا الجنوبية حيث أسّسوا «الرابطة الأندلسية» التي برزت فيها أسماء رشيد سليم الخوري وفوزي المعلوف وآخرون. وفي فترة زمنية متقاربة مع فترة تأسيس «الرابطة القلمية»، حدثت تجربة الإصلاحي الإسلامي الشيخ محمد عبده من خلال تأسيس مجلة «العروة الوثقى» في باريس. وكما حرص محمد عبده على توظيف منبره لإصلاحيين ومفكرين آخرين، كان في مقدّمهم الشيخ جمال الدين الأفغاني، كذلك كانت «الرابطة القلمية» منبراً لعدد مهمّ من المفكرين والأدباء كميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي. فهذا النموذج من المهاجرين أدرك واجبه ومسؤوليته في إصلاح المجتمع الذي هاجر منه، وفي المساهمة الفكرية والعملية بتقديم المشروع النهضوي المطلوب، وفي جعل بلد المهجر مصنعاً لخميرة إيجابية جيّدة وجديدة، لا مرآةً تعكس سلبيات الأوطان التي هاجروا منها. ولعلّ المنطقة العربية هي حالة فريدة جداً بين مناطق العالم، فهي صلة وصل بين «الشمال» و«الجنوب»، وبين «الشرق» و«الغرب»، وبين قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا، وهي أيضاً مهبط الرسالات السماوية وأرض الحضارات القديمة، ومن تلك الأرض: أرض العرب، خرجت حضارة إسلامية وعربية امتدّت لكلّ الجهات الأربع وساهمت في إطلاق شعلة النهضة الأوروبية. وعلى أرض العرب أيضاً ثروات طبيعية ومصادر للطاقة العالمية تجعلها هدفاً دائماً للسيطرة وللأطماع الأجنبية. وستبقى هذه المنطقة العربية ساحة صراع لقوى النفوذ الإمبراطوري، وسترتجّ أرضها لدى أي اختلال يحدث في الميزان الدولي القائم على علاقات «الشرق» و«الغرب» أو على تباينات «الشمال» و«الجنوب». إنّ غياب العمل الفكري والسياسي السليم لمواجهة ما هو واقعٌ مرفوض ولبناء ما هو مستقبلٌ منشود، يعني دعوةً للآخرين إلى التحكّم بمصائر الواقع والمستقبل معاً. فما أحوج الأمَّة العربية اليوم إلى «عمل نهضوي عربي شامل» يشترك فيه مجموعة من أبنائها المقيمين في بلاد العرب مع المنتشرين منهم في بقاع العالم، ليشكّلوا معاً روّاد النهضة وطلائع الإصلاح المتوجّب لأوطانهم وأمَّتهم. * مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن Sobhi@alhewar.com

مشاركة :