أستاذي العطّار .. نَشْرٌ من العِطْرِ لم يُفسدْهُ الدهْرُ ! أ. حسين محمد شعيب يمرّ التاريخ على الرجال فيعبأ ببعضهم ويخلّدُه ، ويفنى الباقون في ذاكرة النسيان وقد يوقظهم الزمانُ في يومٍ من الأيام بأيّ صورةٍ كانتْ ! ويمرّ بعض الرجالِ على التاريخ فيأبوا إلا يكونوا بين سطوره يزاحمُون بالرّكب صفحاته الخالدة بالإنجازات والآثار الباقية . من يعلّمك الارتباط بالبلد الحرام ، ويربيك على تعظيمه ، ويزرع في نفسك حب كل شيء فيه ؛ لاشك إنسانٌ مُغرمٌ بتراب مكةَ الطاهر ، قد عجنته الحياة المكيّة حتى ذاب في هواها ، وقد اعتصرَ جبينَه لظى صبرها طمعاً في عظيم شكرها ، وأيقنَ أنّ روحه لن تكافئها وإن تكرّرتْ زفراتُه في فداها . منه تعلمتُ أن أحبّ مكةَ المكرمة ، أن أعشق تاريخها وتراثها ، أن أفخر بأعلامها : علمائها وأدبائها وشعرائها ، أن أسبر آفاق ثقافتها العالمية وأسرار نسيجها الاجتماعي الفريد ، ألا تكون همّتي وفكري وقلمي بعيداً عن رباها . درستُ على يديه كيف أتعامل مع المعلومات جمعاً وتقنيناً وبحثاً وتنظيماً ؟! كيف أبحث عن ضالتي بأسلوبِ قطف الثمار وعدم ترك الأزهار ؟! كيف أضع خطواتي الأولى على طريق التأليف عبر أوسع أبوابه على هدى وبصيرة ؟! كيف أستنفثُ المعلومة من صدور الرجال في حكمة وصبرٍ على كل حال ؟! كان عمّه مفكّر مكة وأديبها أحمد عبد الغفور عطار قد ملأ عقلَه وفؤادَه فخراً واقتداءً ؛ مما فتح أمام عينيه حياة الكبار مبكّراً ، وجعله يطلّ من نافذة الثقافة خُلطةً ودراية عبر صحيفة عكاظ التي أسسها وأصدرها عمّه في أواخر السبعينات الهجرية ، وكان لها أثرها في تكوينه المعرفي والثقافي ؛ إذ كان من أكثر من رأيتُ متابعةً وقراءةً للصحف محلياً وخارجياً قد تصل إلى إحدى عشرة صحيفةً يومية ! إنه أستاذي الدكتور عمر بن حسين بن عبد الغفور عطار ، أستاذ التربية في قسم التربية الإسلامية والمقارنة بكلية التربية في جامعة أم القرى بمكة المكرمة .. رافقني في رحلتي بالماجستير طالباً بين يديه ومشرفاً على رسالتي البحثية حول حلقات العلم بالمسجد الحرام ودورها التربوي في عهد الملك عبد العزيز منذ العام 1423هـ . لم يكن أستاذنا العطار يكتفي بما تحدّده طبيعة المادة الدراسية المعطاة ، كان كثير الإضافات المرهقة والمثقلة على كواهل طلابه حدّ النفور في بعض الأحيان ؛ إلا أن الثمرة في مزيد الدُرْبة والجلَد على البحث والتنقيب عن المعلومة في مصادرها التي كانت عند العطار متنوّعة وثريّة تفتح للطالب آفاق الاطلاع على التاريخ الذي كان يعشقه ويشركنا دوماً في خوض مغامراته المتعبة عبر الكتب والصحف والمجلات والمقابلات الشخصية التي كان له منهجية خاصة فيها استفدتُ منها كثيراً في جمع معلومات رسالتي . جمع اللهُ سبحانه وتعالى له بين زيارة مساجده الثلاثة : المسجد الحرام ، والمسجد النبوي الشريف ، والمسجد الأقصى الذي زاره عام 1966م ، وكان دوماً يفاخر بذلك تحدثاً بنعمة الله . كان يمقتُ العنصرية ويبثّ في طلابه المساواة ومفاضلة الأخلاق ، فهو وإن كان لاذعاً في لسان الانتقاد إلا أنه يغلّفه دوماً بالطّرْفة وحسه الفكاهي العالي ما يرفع الكُلفة بينه وطلابه ؛ فيُكتب لنقده القَبول ويتركُ أثراً بالغاً في التوجيه والإرشاد بما حمله من فُسحة المرح ؛ فقد كان أول درسه معنا كتابة سيرنا الذاتية التي كانت معيناً خصباً له ولنا في التعارف الذي كان يبهرنا فيه بسعة اطلاعه على أخبار العوائل والأسر المكيّة والقبائل وبطونها ؛ مما خلق فينا أجواء الأسرة الواحدة في ظل أبويّته الحانية . لأستاذي العطار الفضل بعد الله تعالى في اختيار موضوع رسالتي والاستمرار فيه وخوض غماره وعقباته التي كان فيها خير مُوجّه ومُعين يصبر ولا ييأس ويتحمّل ولا يتجمّل في نُصرة الصواب وبيان الأخطاء . ولا أخفي استفادتي العظيمة من نتاج أستاذي العطار الثري في التراجم التي قام فيها بدور كبير واهتمام بالغ ، ويكفي المُنصف الاطلاع على كتابيه : أهل الفضل من التربويين في المملكة العربية السعودية 15 جزءاً ( طُبع منها فقط جزءان 11 – 12 ) ، وكتابه الشموع المضيئة للتربية في المملكة العربية السعودية 5 أجزاء ( طبع منها فقط جزءان 2 – 4 ) ؛ ليعرفَ المطلع على كمّ الجهد في الجمع والتنظيم والسنين الطوال لإخراج هاتين الموسوعتين من التراجم التي وللأسف الشديد لم تأخذ حقها من النشر كاملةً كما ينبغي لها . هذا إلى جانب نتاج آخر متنوّع ومخطوط لأستاذي العطّار مازال يسكنُ ملفّاته العتيقة ، فمنه كتابه التاريخي مؤسسات جبل التربية بمكة المكرمة من عام 1315هـ - 1418هـ .. المؤسسات التي قامت على جبل قعيقعان ، وكتابه الآخر المدارس العريقة بمكة المكرمة وغيرها : السعدية ، الخالدية ، اللاسلكي ، المطوفين ، المعلمين الليلية ، وكتابه المساجد الأثرية بمكة المكرمة ، وغيرها من الكتب المكيّة التي ما زالت مخطوطةً في صفحات النسيان . لقد كان مسكوناً بمكة المكرمة معاهدَ ومؤسساتٍ للعلم وتراجمَ ورجالاً وأخباراً كانت تملأ قصاصاتُها مكتبته العامرة في ملفّات ضخمة تعدّ مصادر مهمّة في الوصول للكثير من النوادر المكية والتراثية . مات أستاذي قبل أكثر من عامٍ ولم تمُت مآثرُه وأفضاله التي طوّق بها أعناق طلابه الذين يذكرونه بالخير ويترحّمون على أيامه العامرة بالحب والألفة .. رحمه الله رحمة الأبرار وبارك في أهله ذريّته وجعلهم خير خلف لخير سلف . * مِن آخِرِ السّطْر : ولما كان لنادي مكة الثقافي الأدبي برعاية وزارة الثقافة والإعلام احتفاءه في آخر هذا الأسبوع بالأديب أحمد عبد الغفور عطار ؛ فليتَ الوزارة تتكفّل بإعادة طباعة كتبه في مجموعٍ واحد كمؤلفات كاملة خاصةً كتابه الموسوعي صقر الجزيرة الذي لم تُعَد طباعتُه منذ أكثر من 40 عاماً رغم أهميّته التاريخية كمصدر من مصادر تاريخ المملكة الثريّة .. والالتفات أيضاً لكتب أستاذي الدكتور عمر عطار لعلّ عينَ الرعاية تتولاها ويُطبَعُ منها ما أمكن وفاءً لهذه الأسرة المكية المتفانية في حب الوطن وخدمته .
مشاركة :