زيارةٌ تاريخيةٌ في رمْزيّتها الدينية، استثنائيةٌ في توقيتها السياسي، ما فوق عادية في دلالاتها، ترافقتْ مع حفاوةٍ بالغة وشكّلت حدَثاً نادر الحدوث وتكلّلتْ نتائجُها الممتازة بـ «نشيد محبّة متبادلة» بين لبنان والمملكة العربية السعودية. بهذه العبارات يمكن توصيف الزيارة غير المسبوقة منذ فجر الإسلام التي قام بها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي للرياض بناءً لدعوةٍ من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز. (تفاصيل ص 20) وعكستْ «رمزية» الصورة التي جمعتْ رأس الكنيسة المارونية بخادم الحرمين الشريفين على «أرض الطائف»، واحداً من التحولاتِ في منطقةٍ تسعى لـ «شبكاتِ أمانٍ» تُبْعِد عنها شبح التطرّف والحروب. وبدا البطريرك الماروني، الذي التقى الملك سلمان ووليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، قبل ان يقيم أمير منطقة الرياض فيصل بن بندر غداءً على شرفه، مرتاحاً للنتائج الممتازة لزيارته الرياض، معلناً انه عائد بـ «نشيدِ محبةٍ سعودي للبنان». وطغى «الحدَث اللبناني» على الأجواء الإعلامية لزيارة البطريرك الذي استقبل في مقرّ إقامته رئيس الحكومة سعد الحريري في جلسةٍ «على انفراد»، وسط تصعيدٍ مارستْه بيروت عبر إطلاقها حركةً ديبلوماسية في اتجاه الخارج توحي عبرها وكأن الحريري «مخطوف» في المملكة أو كأنها في سياق عملية «كومندوس ديبلوماسية لاستعادته». ولم توحِ المواقف التي أطلقها الراعي بعد استقباله الحريري بأن رئيس الحكومة مقيّد الحركة أو في وضعٍ غير طبيعي، وهو وصف اللقاء مع الحريري بأنه «حلو كثير»، متوقّعاً عودة رئيس الحكومة إلى بيروت «في أي لحظة». والأكثر إثارةً للانتباه كانت إشارة الراعي إلى انه يشاطر الحريري أسباب استقالته وانه هو - أي البطريرك - مقتنع بها، لافتاً إلى ان «الرئيس الحريري أعلن في مقابلته التلفزيونية انه على استعداد للعودة عن الاستقالة والاستمرار بالقيام بدوره، وعليه أن يتحدث مع رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب والقيادات السياسية بالأسباب التي دفعتْه إلى الاستقالة، فالرئيس الحريري على استعدادٍ لمواصلة خدمته لهذا الوطن حيث دماء والده»، وملمّحاً إلى انه بعد عودة الحريري ولقائه الرئيس عون «لا بد من أن تبدأ مسيرة جديدة». وكان البطريرك استهل نشاطه، أمس، بلقاء الملك سلمان بن عبد العزيز في مكتبه بقصر اليمامة في الرياض، حيث جرى «التأكيد على أهمية دور مختلف الأديان والثقافات في تعزيز التسامح ونبذ العنف والتطرف والإرهاب وتحقيق الأمن والسلام لشعوب المنطقة والعالم»، وهي المواضيع التي حضرتْ أيضاً في الاجتماع مع ولي العهد. وفيما كانت الأنظار مركزة على هذه الزيارة التاريخية التي أنهاها الراعي عصراً متوجهاً إلى روما، بدت بيروت مشدودة إلى ملف استقالة الحريري الذي أعطى أمس إشارة قوية إلى قرب عودته في أول «تغريدة تَواصُل» مع اللبنانيين منذ استقالته كتب فيها: «يا جماعة أنا بألف خير وإن شاء الله أنا راجع هل يومين خلينا نروق، وعيلتي قاعدة ببلدها المملكة العربية السعودية، مملكة الخير». وإذ بدت تغريدة الحريري محمّلة بردّ ضمني على مطالباتٍ رسمية في لبنان نُقلتْ إلى الخارج بضرورة عودة عائلته معه إلى بيروت من ضمن علامات الاستفهام التي رُسمت حول ظروف إقامته في المملكة بعد استقالته، فإن أوساطاً لبنانية مطلعة لم تفصلها ايضاً عن المسار الذي انزلقتْ معه مقاربة هذه الاستقالة إلى محاولة اختزالها بعنوان «عودة الرئيس الحريري» من دون النظر إلى مرتكزها السياسي الذي يتمثّل في البُعد الاقليميي لسلاح «حزب الله» وأدواره في أكثر من ساحة عربية. وترى هذه الأوساط ان الإيحاءاتٍ الرسمية بأن الحريري «محتجز» في المملكة ومقيَّد الحركة، وحصْر الاستقالة بجانبها التقني واختزالها بعنوان «العودة» يشكّل إدارة ظهرٍ لعمق الأزمة في شقّها اللبناني، منبّهة في الوقت نفسه إلى وجوب عدم الإمعان في التنكّر لجوهر أسباب «الغضبة» السعودية على بيروت والتي عبّرت عنها المملكة بوضوح على لسان مسؤولين فيها أو القيام بخطواتٍ من شأنها نسْف أي جسور عودة في العلاقة مع الرياض. وفيما كان وزير الخارجية جبران باسيل يحمل ملف الاستقالة و«الوضع غير الطبيعي» الذي رافقها وأعقبها إلى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مؤكداً بعد اللقاء في باريس، مساء أمس، «اننا لا نريد أي مس أو تدخل في شؤون السعودية وفي الوقت نفسه نريد الحفاظ على حرية لبنان وسيادته»، و«نأمل ألا نضطر للجوء إلى القوانين الدولية» بحال عدم عودة الحريري، كانت تقارير في بيروت تنقل عن أوساط مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان دعوته للحذر من «تدويل» الأزمة اللبنانية، وللتروي في هذا الموضوع «كي لا تذهب الأمور في غير المسارات التي يُفترض أن تذهب فيها أو أن تتجه نحو منزلقاتٍ تفوق أيضاً قدرة لبنان على الاحتمال».
مشاركة :